مع تزايد الحديث عن اقتراب نهاية الهيمنة الأحادية، التي سيطرت على النظام الدولي، منذ نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتي، تبدو في الأفق قوى دولية تمكنت من إثبات قدرتها على القيام بدور أكبر على المستوى العالمي، على غرار روسيا، والتي اتخذت العديد من المواقف، التي تحمل تحديا صريحا للقيادة الأمريكية للعالم، عبر خطوات تدريجية، منذ معارضة الحرب في العراق في 2004، وحتى العملية العسكرية في أوكرانيا في فبراير الماضي، وما بينهما من مناوشات، سواء بدعم استقلال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا في 2008، وضم شبه جزيرة القرم في 2014، في إطار مساعي موسكو لاستعادة إرثها التاريخي كأحد القوى المؤثرة في العالم بعد عقود من الخفوت.
بينما ظهرت الصين، كلاعب مؤثر، من بوابة التنمية، القائمة على تحقيق معدلات نمو كبيرة، لتصبح أكبر المنافسين التجاريين للولايات المتحدة، عبر إغراق أسواق العالم بمنتجاتها، في القلب منها الأسواق الأمريكية، لتجد بكين نفسها متواجدة داخل كل منزل في أنحاء المعمورة، وهو ما أثار قلق واشنطن، ودفعها لشن حرب تجارية عليها، بلغت ذروتها خلال سنوات الرئيس السابق دونالد ترامب، بينما تمدد الدور مع اندلاع أزمة الوباء من خلال نجاحها المنقطع النظير في احتوائه في الداخل، ثم عبر تعميم تجربتها، سواء في محيطها الآسيوي أو الدولي، لتقدم نفسها كنموذج قادر على احتواء التهديدات الكبيرة التي تواجه العالم، في الوقت الذي عانت فيه القوى المهيمنة في التعامل مع الأزمة في العديد من المراحل.
وبين النموذج الروسي، القائم على تحدي الهيمنة الأمريكية، ونظيره الصيني، المعتمد على تحقيق "معادلة" التنمية والاستقرار، سواء الاقليمي أو الدولي، نجد أن ثمة صورة جديدة، للنظام الدولي، تتجاوز فكرة الأحادية المهيمنة منذ 3 عقود أو الثنائية التقليدية والتي سيطرت على العالم خلال الحرب الباردة، أو قبل ذلك خلال فترات طويلة من التاريخ، خلال الحقبة الاستعمارية، في ظل الصراع التاريخي بين الامبراطورية الفرنسية والمملكة المتحدة، حول النفوذ، وإن زاحمتهم بعض القوى الأخرى في القارة العجوز، لفترات قصيرة.
التحول من حالة الأحادية الدولية، أو صيغة الهيمنة الثنائية، ربما تفتح الباب أمام تجاوز القيادة الثلاثية للعالم، والقائمة على صعود الصين وروسيا لمزاحمة الولايات المتحدة، على عرش النظام الدولي، نحو ظهور قوى جديدة يمكنها القيام بدور في مناطقها الجغرافية، في إطار ما يمكننا تسميته بـ"إعادة توزيع القيادة الدولية" من خلال الاعتماد على الدور الذي يمكن أن تقوم به القوى المؤثرة في كل منطقة جغرافية، في احتواء الأزمات التي قد تنشب في مناطقها، بعيدا عن املاءات قوى بعينها، في تعقد الأزمات المستحدثة، واتساع نطاقها الزمني والجغرافي، وعدم قدرة عدد محدود من القوى الدولية على السيطرة عليها، مهما بلغت إمكاناتها، وهو ما يبدو في أزمات الوباء والمناخ وتداعيات الأوضاع في الأراضي الأوكرانية.
تصاعد دور القوى الإقليمية المؤثرة، يبدو واضحا في التعامل مع القضية المناخية، عبر الدور الذي سبق وأن لعبته فرنسا، في الضغط على الأوروبيين للتوقيع على اتفاق باريس، في 2015، بينما قامت مصر بنفس الدور خلال الأيام الماضية في قمة شرم الشيخ، عندما حظت بثقة محيطها الإفريقي والدولي للتحدث باسمهم أمام العالم، وهو ما أثمر عن تدشين صندوق الخسائر والأضرار، والذي يمثل خطوة مهمة على الطريق للحصول على التعويض المناسب عن سنوات التجريف والاستنزاف التي لحقت بهم، من قبل القوى الكبرى، بالإضافة إلى دعمهم للعمل على تحقيق التنمية المستدامة، وهو الدور الذي يمكن أن يمتد إلى العديد من القضايا والأزمات الأخرى، ليصبح "COP 27" نموذجا للصورة التي ينبغي أن تكون عليه القيادة الدولية مع ميلاد نظام عالمي جديد.
ولعل توزيع الأدوار على القوى الدولية، من شأنه المساهمة في تقديم حلول فعلية للأزمات، والتي باتت تهديدا للحياة على كوكب الأرض، في ظل الجفاف والمجاعات والفيضانات، مع تصاعد أزمات الغذاء والطاقة، عبر ما يمكننا تسميته بـ"تفتيت" الأزمة، وتوزيع المسؤولية الدولية على القيادات الإقليمية للتعامل معها في مناطقهم، مع الإحتفاظ بوتيرة التنسيق الدولي مع المناطق الأخرى، مما يساهم في حلها بصورة أسرع من الاعتماد على قوى محدودة العدد، ربما لن تسعفها إمكاناتها في مواجهة الطوارىء بصورتها غير المحدودة.
الاعتماد على القيادة الإقليمية، من شأنه تحقيق حالة من "اللامركزية" في صناعة القرار الدولي، حيث تبقى الظروف السائدة في كل منطقة، هي الحاكم الرئيسي، في توجهات دولها، وأساليب معالجتهم للأزمات، بعيدا عن تعميم مبادىء دولية بعينها، وهو النهج الذي شهد فشلا ذريعا في العديد من النماذج، التي سعت الولايات المتحدة لتنفيذ رؤيتها بها، بسبب اختلاف الظروف سواء في الداخل أو على المستوى الإقليمي برمته، على غرار ما حدث في العراق، والتي تعهدت واشنطن بتحويله إلى "واحة" للديمقراطية في الشرق الأوسط ولكن انتهت التجربة الأمريكية بحالة من الفوضى وعدم الاستقرار، مازالت تعاني منها بلاد الرافدين حتى الآن.
وهنا يمكننا القول بأن النظام العالمي الجديد الذي تتمخض عنه البيئة الدولية في اللحظة الراهنة، يبدو أكثر اتساعا من مفهوم الهيمنة، سواء أحادية أو ثنائية، وإنما يمكنه استيعاب عدد أكبر من القوى الدولية التي يمكنها العمل عبر مسارين، أولهما من خلال تحسين الأوضاع ومجابهة الأزمات في مناطقها الجغرافية، بينما يعتمد في المسار الثاني على التنسيق فيما بين تلك القيادات الاقليمية لتحقيق التقارب، ومن ثم حالة من الاندماج وهو ما يساهم تدريجيا في تحسين الظروف الدولية في صورتها العامة وتهيئة الظروف، لتحقيق طفرة فيما يتعلق بتطبيق المبادئ التي تهدف إلى تحقيق مصالح الشعوب وتلبي طموحاتهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة