مازال السجال حول أيام قرطاج السينمائية قائمًا، فبعد ختام الدورة الثالثة والثلاثين (29 أكتوبر : 5 نوفمبر)، أعلنت وزيرة الثقافة التونسية حياة قطاط القرمازي عقب لقائها بالرئيس التونسي، أن المهرجان سينظم مرة كل عامين، وهو الأمر الذي أثار الكثير من القلق والأسئلة حول مصير المهرجان العريق، لا سيما أنه على أرض الواقع لم تتخذ خطوة فعالة حتى الآن صوب أيام قرطاج السينمائية، تؤكد استمراريتها على موعدها السنوي، أو العودة لما كانت عليه قبل العام 2015.
لأنه لو صح أنها ستعود لتقليدها القديم، فهذا قرار عشوائي غير مدروس، يؤدي إلى موت المهرجان بحسم وبلا رحمة، دون مبرر حقيقي يستدعي ذلك أو يحرض عليه، فليس من المنطقي دفع مهرجان راسخ إلى الاحتضار، بدلًا من دعمه وتطويره ليواصل مسيرته وحضوره السنوي، خصوصًا أن هذا الحضور تحقق بعد عناء شديد وإنجاز لا يمكن تجاهله، وخصوصًا أيضًا أن الدورة الثالثة والثلاثين كان فيها قدر كبير من الجهد والدأب، واحتواء فعاليات وعناوين سينمائية ذكية ومتجددة، بما يستلزم المواصلة والدوام وليس الوقوف عند نقطة "محلك سر"، بل الانكفاء إلى الخلف، إثر انتقادات هي في أغلبها شكلية ومنها ما تعلق بالسجادة الحمراء وتعارضها مع هوية المهرجان، وقواعده التي أرساها مؤسسه الناقد الكبير الطاهر شريعة، فمهما كانت وجاهة المنتقدين أو درجة الخلافات، لن يكون في مصلحة أحد تعطيل وعرقلة مسيرة المهرجان.
كما يصعب في هذا الإطار أن نتغافل عما تضمنته هذه الدورة من ثراء وتنوع في برمجة الأفلام، حيث شهدنا نحو 50 في المائة من الحضور الافريقي و50 في المائة من الحضور العربي، وهو ملمح لم يحدث منذ فترة، بما أتاح لنا التعرف على تجارب جديدة ومتميزة، ورسخ فكرة المهرجان الرئيسية كمنصة للتواصل مع سينمائيين محليين وعرب وأفارقة، بمشاركة نحو 72 دولة من بينها 23 دولة افريقية من جنوب الصحراء، و17 دولة عربية، حيث تنافس 44 فيلمًا في المسابقات المختلفة، إضافة إلى وجود أقسام جديدة مثل أسبوع النقاد، وأيام قرطاج للصناعة السينمائية التي وفرت عبر برنامج "تكميل" دعمًا ماليًا لسبعة أفلام في مرحلة ما بعد الانتاج، هذا غير إعادة إحياء قرطاج سينما الشارع بالأفلام والعروض الموسيقية، وأيام قرطاج السينمائية للأطفال، وخروج العروض من قاعات السينما في العاصمة إلى بنزرت ومدنين وقابس، ومواصلة العروض في السجون والثكنات.
وفي إطار النقاش الجدي المتعلق بأحوال السينما ومجتمعاتنا عقدت هذه الدورة ندوتها الرئيسية بعنوان "السينما: خلق طريق للمقاومة.. كيف تستطيع السينما أن تفسر العالم وأن تغيّره وتعالج أوجاعه؟"، التي شرفت بالمشاركة فيها، وتحدثت عن الحضور الافريقي في السينما المصرية، ضمن تحديات الواقع التي تواجه الصناعة في بلداننا الافريقية.
من تحديات هذه الدورة أيضًا، تظاهرة: "فوكيس فلسطين" عائد إلى الوطن"، عُرض خلالها 6 أفلام تناولت القضية الفلسطينية: "عائد إلى حيفا"، للعراقي قاسم حول، "جبهة الرفض"، للبنانية جوسلين صعب، "مملكة النمل"، للتونسي شوقي الماجري، و3 أفلام أخرجها فلسطينيون: "حكاية الجواهر الثلاث"، لـ ميشيل خليفي، 3 آلاف ليلة، لـ مي مصري، و: حتى إشعار آخر، لـ رشيد مشهراوي، كما احتفى المهرجان كذلك بالسينما الاسبانية عبر عرض أفلام لمخرجات إسبانيات من أجيال مختلفة.
حتى حضور السينما السعودية كضيف شرف هذا العام، في تصوري هو ضروري لتشجيع سينما جديدة، والتواصل معها ومشاركتها تجربتها الإبداعية الحديثة، وحراكها في التغيير المجتمعي.
هذه النظرة السريعة للدورة 32 لأيام قرطاج السينمائية، بما احتوته من محاولة لتحريك نشاط سينمائي لمهرجان متأصل، هو الأقدم أفريقيًا وعربيًا، منذ أسسه الطاهر شريعة في العام 1966، ليكون ملتقى يُعبّر عن السينما العربية والأفريقية، تعيدنا إلى السؤال عن جدوى تنظيم أيام قرطاج السينمائية كل عامين، ولمصلحة من التراجع إلى نقطة تم تجاوزها منذ 7 سنوات تقريبًا؟
لأيام قرطاج السينمائية بريقها منذ بدايتها سواء محليًا وتناوبها مع أيام قرطاج المسرحية كل عامين، في محاولات لتكريس التنوير الثقافي والفني في تونس، أو عربيًا وتبادلها مع مهرجان دمشق السينمائي في موعده انعقادهما، بما يشبه الاتفاق المتعارف عليه بين السينمائيين العرب، اليوم يغيب عنا مهرجان دمشق بسبب الأزمة والحرب السورية منذ العام 2011، وبقدر ما نحتاج لعودته كواحد من المهرجانات العربية الكبيرة، وما يحتويه من حيوية ثقافية وفنية، نتمنى تثبيت الموعد السنوي لأيام قرطاج السينمائية، فالتباعد بين دوراته ليس حلًا لمشاكله، ولن يعزز من مكانته أو من إنجازه، فالتطور الطبيعي للنهوض بالسينما الأفريقية والعربية ألا نفقد منصة وملتقى مهم لهما مثل قرطاج، وجعلها متأرجحة مرة كل عامين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة