أتذكر عندما كنت طفلة، بعمر ست سنوات، كانت من عاداتى أن أطل من شرفة منزلى لأستنشق بعض الهواء النقى فى الصباح الباكر، حيث كان الهواء يداعب خصلات شعرى، بينما أستمتع بمشاهدة الطيور وهى تحلق فى السماء أسرابا فى ترتيب ونظام لا مثيل له، أثناء هجرتها الموسمية من بلد لآخر، وفى ذلك الوقت كانت تطل جارتنا «أم حسين» من شرفة منزلها، لتنادى على جارتها التى تسكن بالعمارة المقابلة لها، لتسألها عن أحوالها، وكيف أعدت الوصفة التى نصحتها بها أمس، لتدخل جارة أخرى وتشاركهما الحديث عن وصفات أفضل لهذه الوجبة حتى تقتنعا بوصفتها وتعدانها بتجربتها، ثم يتطرقن جميعا فى حديث آخر، حتى تتذكر إحداهن أنها تركت صينية الأكل فى الفرن، وتستأذن منهما وهى قاطعة على نفسها وعدا باستكمال الحديث معهما فى وقت لاحق.
وأتذكر أيضا، فى طفولتى، عند مشاهدتى لمسلسل الكرتون المفضل لدى، باب شقتنا وهو يطرق، وعندما أفتحه أجد ابنة جارتنا «أم مروة» وهى تحمل بين يديها صحنا يحتوى على قطع الكنافة المحشوة بالكريمة والمزينة بالمكسرات، كانت قد أعدته والدتها، وأرادت أن نتذوق منه بعض القطع، وكنا نبادلها أيضا بقطع حلوى كانت تعدها أمى بإتقان شديد وتزينها، وهكذا كان حال جيران عمارتنا، بل والشارع أيضا، حيث كان يحرص الجيران على مشاركة جيرانهم أجمل لحظات حياتهم، حتى أنهم كانوا يحرصون على دعوتهم لحضور أعياد ميلاد أبنائهم، وحفلات زفافهم، وغيرها من المناسبات المختلفة.
وفى الظهيرة، كانت تجتمع بعض النساء فى الشارع، ليجلسن على المصاطب، ويتحدثن فى مختلف أمور حياتهن، سواء مشاكلهن العائلية، أو الصعوبات التى تواجه إحداهن فى طهى وجبة ما، وفى المساء كان يجلس مكانهن الرجال ليجتمعوا معا ويشربوا الشاى أو القهوة، ويتبادلوا أطراف الحديث مع بعضهم، ويطلقوا النكات الفكاهية، ويتنافسوا فى ألعاب الطاولة والدومينو، والحقيقة أن مثل هذه الجلسات كانت تساعد على تقوية وترسيخ العلاقة بين الجيران، حيث كان كل منهم على علم بحال جاره، ويحرص على زيارته والتودد له، لذلك عندما يصاب أحدهم بمكروه، كان يتسارع الآخرون إلى مساعدته.
لكن، وبمرور الوقت، اختفت قعدت المصاطب، ولم تعد السيدات للإطلال من شرفات منازلهن، وحتى «الصحن الدائر» الملىء بالحلوى، لم يعد يبادله أحد من الجيران، واختفت هذه العادة الجميلة، وساد الصمت بين سكان العمارة الواحدة، وأصبح هذا حال معظم شوارعنا المصرية، بسبب انشغال الكثير بارتياد مواقع التواصل الاجتماعى طوال الوقت، وانشغال الأطفال بممارسة الألعاب الإلكترونية، التى استبدلوها بلعب النحلة، والأولى، وغيرهما من الألعاب التقليدية مع أطفال جيرانهم فى الشارع.
وأصبح أغلب الجيران مشغولين عن جيرانهم ولا يسألون عنهم، ووصل الحال إلى ألا يعلم الجار أى شىء عن جاره الساكن بجواره منذ سنوات، ولا حتى يعرف اسمه، وهذا يختلف مع عاداتنا وتقاليدنا الجميلة التى نشأنا عليها فى مجتمعنا المصرى، والتى تنص على أننا عائلة واحدة فى السراء والضراء، لهذا أحلم بعودة «قعدة المصاطب» من جديد و«رغى البلكونات» وتبادل «الطبق الدائر»، وزيارة الجار لجاره فى الأفراح والأحزان، وعودة لعب أطفال الجيران مع بعضهم فى الشارع، وترك الأجهزة الإلكترونية التى أفقدتنا طبيعتنا الاجتماعية، بل الإنسانية، التى خلقنا عليها وجعلتنا نقابل جيراننا وأصدقاءنا فى الواقع الافتراضى فقط، وإذا عادت هذه الأجواء الدافئة إلى الشوارع مرة أخرى، أؤكد لك عزيزى القارئ بأن أخبار مشاجرات الجيران التى تنتج عنها إصابة أحدهم بعاهة مستديمة، سوف تنتهى من صفحات الجرائد، ويشعر كل شخص بالأمان والحب والدفء فى منزله، ولن يشعر أحد مرة أخرى بالوحدة، لأنه يعتبر جيرانه فى الشارع بمثابة عائلته الثانية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة