كان الوقت ظهر السبت، 26 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1885 حين ظهر فى مياه الإسكندرية الوابور العثمانى «عز الدين»، الذى يقل الغازى أحمد مختار باشا مع حرمه ورجال معيته، وفقا للدكتور يونان لبيب رزق، فى القسم الأول للجزء الثانى من موسوعة «الأهرام، ديوان الحياة المعاصرة».
يذكر «رزق»، أن نوبار باشا رئيس الوزراء ومحافظ الإسكندرية والعلماء والباشوات والذوات وكبار التجار والموظفين والأعيان هرعوا لاستقبال «الغازى»، وغطت الفسحات بهم، فضلا عن لفيف المتفرجين الذين سدوا السكك، واصطف على الشاطئ فرقة من العساكر الإنجليزية ، وفرقة من العساكر البحارة المصرية، وعند الساعة الثانية بعد الظهر أرسى «الوابور عز الدين» على مقربة من الترسانة، فرفعت جميع البواخر العلم العثمانى، وأطلق «الوابور محمد على» 19 مدفعا، ونزل نوبار باشا ومن معه فقابلوا «أحمد مختار»، وهنأوه بسلامة الوصول.
يعتبر «رزق» أن هذا الوصول كان يشكل الفصول الأولى لفصل من أغرب الفصول فى التاريخ المصرى المعاصر، وربما أكثرها غموضا، هو الفصل الذى كان بطله هذه الشخصية ، ويوضح أن بداية هذه القصة بدأت قبل ستة شهور من وصول «الغازى»، وبالتحديد فى 24 يونيو 1885 حين استطاعت حكومة الأحرار البريطانية التى تم فى عهدها احتلال مصر «14 سبتمبر 1882»، وخلفتها حكومة المحافظين برئاسة «سولسيرى»، وقررت سحب جيش الاحتلال من البلاد لعدة اعتبارات، منها أن قطاع من الرأى العام البريطانى رأى أن بقاء الاحتلال أقرب إلى الوقوع فى الفخ، ومنها أن الأزمات توالت فى علاقات بريطانيا بفرنسا بسبب هذا الاحتلال، وأخيرا سعى بريطانيا إلى تحسين علاقتها مع الدولة العثمانية لاحتمالات الحرب مع روسيا بسبب الصراع على مناطق النفوذ فى أفغانستان.
يؤكد «رزق» أنه فى ضوء كل هذه الأسباب حدثت اتصالات بين الحكومتين البريطانية والعثمانية، لتنظيم الجلاء عن مصر، وترتب على ذلك قرار الحكومة العثمانية بإرسال مندوب سام لها أطلقت عليه جريدة الأهرام وقتها تسمية «المرخص العثمانى»، وفيما بعد أطلقت عليه صحف أخرى تسمية «القوميسير العثمانى»، وكان هو نفسه الغازى أحمد مختار الذى بقى فى مصر 23 عاما.
يذكر «رزق» أن «الغازى أحمد مختار» كان صاحب سيرة كبيرة داخل الحكومة العثمانية، حيث حصل على لقب «المشير» الرفيع عام 1870، ثم لقب «الغازى» المتفرد عام 1877 إبان اشتراكه فى الحرب ضد روسيا، وبصفته «غازيا» جاء إلى القاهرة ونزل للإقامة فى «سراى الإسماعيلية»، ويتوقع «رزق» أن ضغوطا خضع لها الخديو توفيق لتحديد هذا المكان الذى كان مخصصا لاستقبالاته الرسمية، لأن الغازى فى سلم الحكومة العثمانية يتمتع بمكانة رفيعة لا تقل عن مكانة هذا الخديو إن لم تزد.
يضيف «رزق» أن الاستقبال الذى جرى للغازى فى قصر عابدين صباح السبت 30 ديسمبر عام 1885 يكشف عن هذه المكانة، حيث انتقل إلى سراى عابدين بموكب حافل يتقدمه كوكبة من الخيالة، ويتبع عربته عربات كثيرة تقل رجال معيته بملابسهم الرسمية، ويذكر «رزق» أن الخديو توفيق اتبع سياسة المسالمة مع الغازى، بل ودفع الثمن من مكانته وهيبته، ويدلل على ذلك بالتصرفات التى أقدم عليها «الغازى» قائلا إنه بعد وصوله بأقل من أسبوع شرع يتفحص المسائل واحدة فواحدة بدقة وترو، ولا يترك شاردة ولا واردة دون استفهام عنها، وكان من بين ما تفحصه «حالة الأطيان والمحاصيل والأموال المضروبة»، ومن بين ما طلبه الميزانية، وكشف يشتمل على عدد الموظفين فى الإدارات وراتب كل منهم بدقة وجنسيته.
يؤكد «رزق»، أن «الغازى» خول لنفسه الاتصال بكبار الموظفين والنظار «الوزراء»، وخاصة ناظر الحربية والبحث معه فى شؤون الجيش والسودان، ووصل الأمر به إلى القيام برحلات تفقدية يصحبه رجال دائرته كقيامه بزيارة دار الكتب فى سراى درب الجماميز، وزيارته إلى بنها بمديرية القليوبية فى وابور خاص قادم من العاصمة «القاهرة»، واستقبله المدير ووكيله وجمع من الأعيان، وتفرج على وابور حلاجة للقطن ثم عاد فى قطار الركاب إلى مصر.
ونشط الرجل فى أن يكون له وجود اجتماعى مؤثر، وكانت المناسبات الدينية أهم هذه الجوانب، ففى أكثر أيام الجمعة كان يفاجئ المصلين بالجامع الأزهر ليؤدى الصلاة فى وسطهم، ويستقبله فضيلة شيخ الأزهر وجمع من العلماء، ولم يفوت الليالى الدينية دون أن يكون حاضرا فيها، منها حضور الموالد.. ويؤكد «رزق» أن حرصه هذا كان للتأكيد على أنه يمثل خليفة المسلمين دون غيره خاصة ذلك المقيم فى «عابدين».
مع هذا النفود الطاغى للغازى الذى وصل إلى حد إلغاء الخديو، لم يتحقق الهدف من مجيئه وهو خروج الاحتلال البريطانى من مصر، بل إنه ووفقا لرزق «جميع المصادر تجمع على أن الرجل تسبب بسياساته فى إفشال أول معاهدة أقرت بجلاء الإنجليز عن مصر، وهى المعاهدة التى لم توضع موضع التطبيق أبدا».