أعطى السلطان العثمانى محمود الثانى، الإذن لمحمد على باشا، والى مصر بفتح السودان، وضم ما شاء من أرضه باسمه، وفى يونيو 1820 تجمعت ثلاثة آلاف سفينة فى بولاق لنقل الذخيرة والمؤن والعتاد والرجال إلى الجنوب، وتجمعت آلاف الجمال بواسطة قبيلتى العبابدة وأولاد على فى إسنا، وتجمع جيش أسند محمد على قيادته لابنه إسماعيل لمهمة فتح السودان وهى المهمة التى سيلقى «إسماعيل» مصرعه خلالها، فيحزن والده، وفقا لما يذكره الدكتور عبدالرحمن زكى فى كتابه «التاريخ الحربى لعصر محمد على الكبير».
يصف «زكى» الأمير إسماعيل قائلا: «كان فى الخامسة والعشرين من عمره يجرى دم الشباب فى عروقه، جريئا مقداما، يتمتع بقدر موفور من الذكاء وقد ألم بالأحوال الأوروبية من جغرافية وسياسة، مستبد برأيه أحيانا، لا يستمع بنصائح قادته أحيانا أخرى، جندى الطباع يفهم أبجديات مهنته، عرف أن مهمته الرئيسية إخضاع بلاد السودان لتدين بالطاعة، ولذلك لم يلجأ إلا إلى الأصول الحربية، ولم ينظر إلى الأساليب السياسية أو النفسية التى عرفها بعض قادته المحنكين، بالرغم من أن أباه طالما لفت نظره ليتبع الحكمة مع زعماء البلدان المحتلة، ويتبدى ذلك من خلال عدة رسائل بعث بها الأب لولده القائد».
يضيف زكى، هذا هو القائد الذى نيط به أمر الجيش حين وصل إلى أسوان، وانقسم الجند إلى قسمين، القسم الأول تحت قيادته وكلف بالتقدم، ووضع القسم الثانى تحت قيادة الدفتردار صهر محمد على لفتح كردفان.
مضى «إسماعيل» فى انتصاراته فى السودان، ووفقا لعبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر محمد على»: «أرسل أفواجا من الأسرى السودانيين يصحبهم رهط من الجنود إلى أسوان لتجنيدهم فى الجيش المصرى النظامى الذى كان محمد على جادا فى تأسيسه، واستعد هو أيضا إلى العودة لمصر»، ويذكر زكى: «فى هذه الآونة كان الأمير معتل الصحة بادى الهزال، وكان طبيبه الدكتور «بوازرى» يستعد للذهاب إلى مصر كما يهيئ السبيل لاستدعاء الأمير».
يذكر الرافعى، أنه فى غضون ذلك علم إسماعيل أن أهالى «حلفاية» و«شندى» وما حولهما ثاروا فى وجه السلطة المصرية التى وضعها هو لهم، وكانت مساوئ الجنود وخاصة الأرناءود من أسباب هياج الأهالى وثورتهم، فاحتشد الثوار حول «حلفاية» و«شندى» وهجموا على قوافل الأرقاء السودانيين وانتزعوهم من أيدى الجنود الموكلين بهم، ورجعوا إلى شندى فرحين بهذا النصر المبين.
يضيف الرافعى، أن إسماعيل قام من فوره قاصدا شندى ومعه بقية الجيش، وكان الملك «نمر» ملك شندى هو المدبر لهذه الثورة، فجاء إسماعيل المدينة فى أواخر أكتوبر سنة 1822، وأمر بإحضار ملك شندى أمامه، فلما مثل بين يديه أخذ يقرعه ويسرف فى تأنيبه، ثم تمادى فلطمه على وجهه «بالشبك»، فلم يجب الملك على هذه الإهانة البالغة، لكنه أسرها فى نفسه وعزم على أن يغسلها بانتقام ذريع.
بعد هذه الإهانة عفا عنه إسماعيل مقابل غرامة مالية جسيمة يوافيها فى خمسة أيام، وألف من الرقيق، حسبما يذكر الرافعى، مضيفا: «أظهر الملك نمر الإذعان، ثم دعا إسماعيل باشا وبطانته إلى وليمة فى قصره بشندى، وكان من القش، فأجابوا الدعوة وذهبوا إلى القصر ورحب بهم الملك ترحيبا عظيما، وأمر أعوانه أن يجمعوا ما استطاعوا من الحطب والقش والتبن حول القصر بحجة العلف لخيل الباشا، ولم يدر بخلد الضيوف أن ثمة مؤامرة رهيبة تدبر لهم، فلما فرغوا من طعامهم وأكثروا من شراب المريسة «مشروب شعبى سودانى»، أخذوا يتأهبون للعودة إلى معسكرهم، فإذا بالنار تطير فى أكوام الحطب والقش المحيطة بالقصر، فجعلت القصر شعلة من الجحيم، وحصرت النيران إسماعيل باشا وحاشيته».
يؤكد الرافعى، أن إسماعيل وحاشيته لم يستطيعوا الإفلات من هذا الحصار الجهنمى لهول النار المشتعلة ولإحاطة جنود الملك بهم يرمونهم بالنبل والسهام من كل ناحية، فُسدت المسالك فى وجوههم حتى ماتوا عن آخرهم، ولما وقعت الكارثة انقض عليهم رجال الملك نمر ففتكوا بهم، ولم ينج منهم إلا من هرب به العمر.
يضيف الرافعى، أن محمد على باشا تلقى هذا الخبر فى 5 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1822، فحزن بشدة بعد أن فقد ابنه طوسون قبل ذلك بأعوام، ودفن إلى جانبه فى مقبرة الإمام الشافعى.. يذكر: «كان محمد بك الدفتردار وقت وقوع هذه الكارثة فى كردفان، فلما جاءه نبأها بادر من فوره بالزحف على شندى للثأر والتنكيل ممن اشتركوا فى الواقعة، وخرب شندى، وأسرف فى التنكيل والقسوة بما جعله مضرب الأمثال فى الميل إلى القتل وسفك الدماء، وقتل آلافا من الناس ليثأر لصهره، وسبى من الصبيان والنساء آلافا أخرى أرسلهم إلى القاهرة، وتعقب الملك نمر لكنه لم يدركه لفراره إلى الحبشة».