غابت سيدة الغناء العربى أم كلثوم عن حفلاتها الدورية بمصر بعد هزيمة 5 يونيو 1967، وكانت فى الخميس الأول من كل شهر، ثم عادت بعد 18 شهرا بحفلتها فى سينما قصر النيل يوم الخميس 6 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1968، وغنت أمام 1800 مستمع حضروا من كل البلاد العربية، حسبما تذكر الأهرام فى تقريرها المصور عن الحفل فى عدد 7 ديسمبر 1968، الذى قدمت فيه لأول مرة رائعتها قصيدة «هذه ليلتى»، كلمات الشاعر اللبنانى جورج جرداق، وتلحين محمد عبدالوهاب.
كان شوق الجمهور لأم كلثوم كبيرا، وعبرت إحدى الحاضرات عن ذلك.. تذكر الأهرام: كان أول صوت يحييها، صوت شابة جميلة، وقفت وهتفت بأعلى صوتها من وسط القاعة: «وحشتينا، الليلة دى مولد الست».. تضيف الأهرام: «ابتسمت أم كلثوم، وبدأت فرقتها الموسيقية فى عزف مقدمة قصيدة الأطلال، وإذا بالتصفيق والهتاف كأنهما زلزال تتمايل له الجدران، وبعد 67 دقيقة أسدل الستار على آخر كلمات الأغنية التى تقول: «لا تقل شئنا فإن الحظ شاء»، واستراحت أم كلثوم ساعة كاملة، التقت خلالها بمن أصروا على مصافحتها، وتهنئتها بالعودة».
عادت إلى المسرح لتغنى أغنيتها الجديدة «هذه ليلتى» التى حضرها مؤلفها جورج جرداق من لبنان، ليستمع إلى أم كلثوم تغنيها لأول مرة إلى العالم العربى، استعيدت مقطعها الأول أربع مرات، واستعيدت باقى المقاطع ما بين ثلاث وأربع مرات إلى أن جاء المقطع الذى تقول فيه: «هل فى ليلتى خيال الندامى والنواسى عانق الخياما»، وهنا ارتفعت الزغاريد فى أرجاء القاعة، فقد وضع عبدالوهاب لحن هذا المقطع من أنغام الموشحات، فلم يتمالك بعضهم نفسه من التمايل بالرقص برغم السن والشيب.
كان جورج جرداق، الذى حضر خصيصا من لبنان يجلس وحيدا، بعيدا، يبكى، وعندما سأله الكاتب الصحفى فتحى أبوالفضل عن سر دموعه، أجاب فى صوت خافت يملأه الرضى: «لو مت الآن لما همنى شىء، فقد فزت بكل شىء عندما جرى شعرى على شفتى أم كلثوم»، وبلغ تفاعل الجمهور ذروته فى ختام غناء أم كلثوم بعد ساعة وخمسة وخمسين دقيقة، وحسب الأهرام: «حين ختمت القصيدة بقولها: أحبك الآن أكثر.. صرخ أحد الحاضرين قائلا: احنا بنحبك أكتر يا ست».. تذكر الأهرام: «هبط الستار، ولكن كان من المستحيل أن تفلت أم كلثوم من المستمعين بالسهولة التى كانت تتصورها، فأعادها التصفيق والهتاف والدبيب من الداخل لتنفرج الستار مرة أخرى، فتستغرق الأغنية ساعتين بالضبط».
كان لاختيار أم كلثوم قصيدة «هذه ليلتى» قصة يرويها الكاتب اللبنانى «فارس يواكيم» فى كتابه «حكايات الأغانى»، وينقلها عنه الكاتب اللبنانى «محمود الزيباوى» فى مقاله «هذه ليلتى» بجريدة النهار اللبنانية، 14 نوفمبر، 2014، قائلا: كان محمد عبدالوهاب يحب جورج جرداق وشعره، وذات مرة أخبره بأنه كان قد تكلم بالهاتف مع أمّ كلثوم، وهى تبلغه السلام، وأضاف: اتفقنا على أن تغنّى قصيدة لك فى الموسم القادم، وفكّر الشاعر فى كتابة قصيدة تليق بسيدة الغناء، وقبل أن يشرع فى ذلك، جمعته سهرة بعبدالوهاب فى أحد فنادق مصيف بحمدون، وفيما كانا جالسين فى الشرفة المطلة على الوادى الجميل، راح «جرداق» يردّد أبياتا من قصيدة له عنوانها «هذه ليلتى»، وحين سمعها عبدالوهاب قال: هذه هى القصيدة، رائعة، للمرة الأولى المرأة هى صاحبة القرار، هى التى تقول «هذه ليلتى».
يضيف «زيباوى» نقلا عن «يواكيم»: «كانت القصيدة تبدأ بمطلع غير الذى عرفه المستمعون، كان الشاعر بدأ قصيدته قائلا: «هذه ليلتى وهذا العود/ بثّ فيه من سحره داوود»، وفى البيت إشارة إلى النبى داوود صاحب المزامير، لكن أمّ كلثوم طلبت تغيير المطلع بسبب تلك الإشارة، وقالت للشاعر: نحن المسلمين والمسيحيين نجلّ النبى داوود، ونقول سيدنا داوود، فعلّق جورج جرداق قائلا: سبق لعبدالوهاب أن غنّى «وهل ترنّم بالمزمار داوود»، فى قصيدة «تلفتت ظبية الوادى»، وأنت يا كوكب الشرق غنّيت فى «سلوا كؤوس الطلا»، «جرت على فم داوود فغنّاها»، يعنى اسم داوود موجود فى الشعر العربى المغنّى أيضا»، فأجابت أمّ كلثوم: «أيوه، بس يومها ما كانش فيه إسرائيل ونجمة داوود».
استجاب الشاعر لطلب أمّ كلثوم، وأعاد كتابة مطلع القصيدة على النحو الآتى: «هذه ليلتى وحلم حياتى/ بين ماضٍ من الزمان وآتِ/ الهوى أنت كلّه والأمانى/ فاملأ الكاس بالغرام وهاتِ
بعد حين يبدل الحب دارا/ والعصافير تهجر الأوكارا/ وديار كانت قديما ديارا/ سترانا كما نراها قفارا/ سوف تلهو بنا الحياة وتسخر/ فتعال أحبّك الآن أكثر».