عشت سنوات طويلة عمري في كنف قريتي (الدراكسة) بمحافظة الدقهلية، وعاصرت العصر الذهبي للقطن المصري الذي كان العمود الفقري في حياة الفلاح، حيث كان أهلنا في الريف يسمون موسم جنيه بـ (الإيراد)، وكانت تعلق عليه الآمال العريضة في تزويج الأبناء ودفع كافة التزاماتهم الحياتية مقابل الحصول على كافة السلع المعمرة والخدمات التي كانوا يؤجلون دفع ثمنها حتى حلول موعد (الإيراد)، حيث هو المحصول الرئيسي الذي تتوفر فيه سيولة مالية تحقق الأحلام والطموحات، وعشت أيضا سنوات أخرى عانى خلالها القطن المصرى من أزمات وكبوات أفقدته بريقه، لدرجة أنه شارف على فقدان سمعته العالمية وتصدره قوائم أجود أنواع الأقطان والتى تنتج أفضل وأغلى المنسوجات، حتى وضع الرئيس عبد الفتاح السيسى حدا فاصلا لهذا وقرر تعظيم الاستفادة من القطن المصرى لتكتمل المنظومة.
منذ سنتين تقريبا وضع الرئيس حدا لهذا التراجع، ومنح من خلال اجتماعاته المتكررة بالوزارات المعنية دفعة شديدة لاسترداد القطن المصرى لعرشه الضائع، لاسيما فى ظل دخول جهاز مشروعات الخدمة الوطنية للقوات المسلحة فى المنظومة والتى تحقق سرعة فائقة وجدية كبيرة فى التنفيذ، خصوصا وأن تعليمات الرئيس كانت تقتضى استعادة المكانة العالمية للقطن المصري، وإقامة صناعات وطنية تعتمد عليه لتوفير منتجات قطنية عالية الجودة بأسعار ملائمة للمواطنين، وقد كانت اجتماعات الرئيس بالوزارات المعنية يمثل حجر الزاوية لعودة القطن لعهده، فلم تكن هناك خطوة حقيقية من قبل رغم المحاولات، وجاءت تعليمات القيادة السياسية واضحة، إذ يتم العمل على توطين صناعة الغزل والنسيج وتقديم التسهيلات للفلاح لزيادة المساحة المنزرعة بضرورة الإسراع فى إنشاء قاعدة صناعية للغزل والنسيج فى مصر على أحدث تكنولوجيا.
كان إنتاج مصر من القطن 67 ألف طن يتم تصدير مايقرب من 60 ألف طن منها، وفى نفس الوقت نستوردنا ضعف الكمية من الخارج لتغطية احتياجات المغازل المحلية، وعندما نرى الميزان التجارى فإننا نصدر مايقارب 2.8 مليار دولار إلا أن الوزارات المصرية تجاوزت 4.5 مليار دولار من الاستيراد لمحصول نحن أقدم وأكبر وأهم دول العالم في انتاجه، ببساطة لأننا نصدره كمادة خام ونستورد بدلا منها منتج نهائى فى صورة ملابس ونسيج ومستلزمات الغزل، لكن عندما وعت القيادة السياسية إلى ضرورة أهمية الاهتمام بالذهب الأبيض المصري، وحدث التوجه بالتنسيق فى المنظومة فإن ذلك أدى إلى الاكتفاء الذاتى من القطن المصري، وكانت الأولوية الأولى تهدف الى تصنيع القطن المصرى داخل مصر، فقد كنا لا نستفيد من القطن المصرى إلا بنسبة 10% إلى 15% على الأكثر فى الصناعة الوطنية، ومن يرغب فى القطن المصرى لابد أن يستورده فى شكل مصنوع لتعظيم الاستفادة منه وتشجيع المزارعين من خلال زيادة الطلب عليه.
لقد كان سوء حالة ماكينات المصانع المصرية يمنع استخدام القطن المصري، لكن الأقطان المستوردة من الخارج الأقل فى الجودة كانت تناسب تلك الماكينات القديمة، ومن ثم فعلى الفور تم إعداد هناك خطة معتمدة ليكون لدينا أول مصنع الغزل، بحيث ينتج 30 طنا استهلاكه اليومى 40 طن قطن، وهذا كان أكبر مصنع فى الشرق الأوسط لإنتاج الأقطان المصرية فائقة الجودة من الأقمشة والمنسوجات، وهذا كان لدواعى الحفاظ على الأمن القومى لأنه لايعقل أن نستورد ملابس القوات المسلحة من الخارج فى ظل وجود أجهزة تجسس قد توضع فى الملابس العسكرية، وبالتالى فإن هذا الزى لابد أن يكون من خامات وتصنيع مصرى، بالإضافة إلى أن دخول القوات المسلحة فى المنظومة بما لديها من إمكانات تستخدم فى الزراعة وكذا الانضباط لسرعة التنفيذ فى زمن قياسى محدود، ونحن فى مرحلة نحتاج فيها إلى سرعة الإنجاز فى البناء والقوات المسلحة لديها مشروعات (شركة الريف المصرى) تساعد فى زراعة القطن قصير التيلة، لتغطية قطاع عريض مثل أقمشة الجينز والفوط وغيرها من الملابس.
إن اهتمام الرئيس عبد الفتاح السيسى بالزراعة وخاصة القطن ومن قبله تقاوى الخضر والفاكهة يؤكد على عمق الفكر الاقتصادي، ورغبته فى تعظيم دور مصر التاريخى كبلد زراعية من الدرجة الأولى، خاصة وأن لدينا كافة الإمكانات التى تجعل القطن المصرى فى الصدارة، ورغبة الرئيس فى تصنيع القطن محليا أحدث متغيرات اقتصادية هامة فى ميزان المدفوعات، وفتح الباب على مصراعيه أمام الصناعة المحلية لتتجه نحو الأسواق العالمية، بعد أن كان المعتقد السائد أن الصناعة المصرية متأخرة فى التصنيع، هذا مايرد الاعتبار للصناعة المصرية خاصة صناعة الغزل والنسيج التى كادت أن تموت، فضلا عن تشغيل عدد كبير من الشباب والقضاء على البطالة، وأن الرئيس بهذا الفكر يهدف إلى أن يجعل من مصر منطقة لتصنيع الأقطان وهو ما يجذب المستثمرين.
ولقد سعدت بقراءة تقرير أمس على صفحات (اليوم السابع) يشير إلى الاستعانة بالخبرات العالمية كنهج وطريق جديد يكفل لمنتجات مصر القطنية إستعادة مجدها، وذلك برفع مستوى الجودة وتصميمات جديدة وتنشيط التسويق والمشاركة فى المعارض الدولية، وأبرز الآليات لمضاعفة الصادرات والمبيعات 5 أضعاف، وسوف يشهد شهر أبريل المقبل تدشين عدد من الفروع التجارية المخصصة لتسويق وبيع منتجات الأقطان المصرية الجديدة، تزامنا مع استمرار تطوير وتحديث المصانع الجديدة بتكلفة 21 مليار جنيه، حيث سيتم الانطلاق من السوق المحلى إلى العالمية بحسب خطة وزارة قطاع الأعمال العام، و(القابضة للقطن والغزل والنسيج والملابس) من خلال إحدى شركاتها الجديدة (ECH) لتسويق وبيع منتجات (القابضة للغزل).
بداية مشروع التسويق الجديد بدأ باختيار اسم (نيت) كشعار للمنتجات الجديدة، والتى من المنتظر أن تواكب أفضل المنتجات العالمية وأحدث خطوط الموضة، بما يساهم فى استعادة القطن المصرى لمكانته العالمية مجددا، ورفع قيمة وحجم المبيعات محليا وخارجيا، وكشف الدكتور أحمد مصطفى، العضو المنتدب الرئيس التنفيذى لـ (الشركة القابضة للقطن والغزل والنسيج والملابس)، إحدى الشركات وزارة قطاع الأعمال العام أنه من المنتظر تشغيل باكورة مصانع الغزل والنسيج الجديدة فى النصف الثانى من العام الجارى، وقد سبق تلك القفزة الكبيرة في تصنيع القطن المصري محليا توقيع عقود شراء الماكينات، موضحا إن جائحة كورونا وإغلاق الدول الأوروبية ساهمت في تأخير وصول بعض المعدات للمصانع نتيجة التوقف شبة التام لحركة الشحن، وسيتم تشغيل مصنع غزل 4 فى شركة مصر بالمحلة ثم (مصنع 1) الأكبر فى العالم، فى النصف الثانى من العام الجارى، ثم بعدها بالتدريج ومع مطلع العام الجديد سيتم تشغيل المصانع الجديدة، سواء فى كفر الدوار ثم بعد ذلك المصانع الجديدة فى دمياط.
وعلي صعيد عملية التسويق تولت شركة التسويق الجديدة (إيجبشن كوتون هب) التى دشنتها (القابضة للقطن والغزل والنسيج) أعمال التسويق والمبيعات الخاصة بكل الشركات، بدء من شهر فبراير الجارى، كبديل لإدارات التسويق والمبيعات فى كل الشركات.
وبحسب مصادر لـ (اليوم السابع) فإنه تم إرسال تعميم لكل شركات الغزل والنسيج والملابس، بأن تقوم الشركة الجديدة، والتى أنشئت لإدارة كافة سلسلة الامداد، بتولى تسويق وبيع منتجات كافة الشركات فى مصر وخارجها، لافتة إلى إنه تم طلب إرسال نموذج لكافة عملاء الشركات للتعامل مع الشركة الجديدة وموافاتها بكافة بيانات العملاء، ولقد أثلج صدري أكثر أن تأكيد تلك المصادر إنه وفق الخطاب ستوفر الشركة الجديدة ECH كافة أعمال التشغيل للغير أيضا، بجانب التسويق والمبيعات، والتى كانت تقوم بها الشركات المنتجة نفسها قبل تدشين الشركة الجديدة، لافتة أن بعض الشركات ترفض منح قائمة عملائها الأساسيين للشركة الجديدة، مطالبين بأن توفر عملاء جديدة لها؛ لتكون إضافة للتسويق، بدلا من الاستعانة بنفس العملاء الخاصين بالشركات، ويشار إلى أن الشركة الجديدة خصصت 6 قطاعات رئيسية للتعامل مع العملاء بداية من تسويق الخامات حتى المنتجات النهائية.
وسعادتي لا تصف أيضا بإعلان وزارة قطاع الأعمال عن تفاصيل آخر مستجدات افتتاح 3 فروع لـ ECH للبيع المحلي، وأولها في أبريل المقبل، بعدما جهزت Egyptian Cotton Hub (إيجيبشيان كوتون هب)، عددا من النماذج وعينات الإنتاج من المنتجات الجديدة خاصة في قطاع المفروشات والمنسوجات المنزلية، وكذلك الأدوات الجديدة المستخدمة في تعبئة وعرض المنتجات، وذلك تحت العلامة التجارية الجديدة (نيت)، وبحسب الوزارة تسعى الشركة الجديدة لتحسين وتطوير أساليب البيع والتسويق للمنافسة محليا، وكذلك التواجد بقوة في الأسواق العالمية، حيث من المستهدف بيع وتسويق كميات تعادل 5 أضعاف الكميات المنتجة حاليا، بعد الانتهاء من خطة التحديث الشامل لشركات الغزل والنسيج، وتستهدف شركة ECH فتح عددا من الفروع للبيع المحلي، بالإضافة إلى التواجد في كبرى المراكز التجارية وفروع شركات التجارة الداخلية الشقيقة، وكذلك المشاركة في المعارض الدولية وكبرى سلاسل التجارة العالمية.
ولعل اهتمام الدولة وعلى رأسها القيادة السياسية بتطوير صناعة القطن المصري محليا أصبح يعكس وعيا حقيقيا بتحسين حياة المواطن، وخاصة فيما يتعلق بالفلاح الذي عاني طويلا عبر سياسات خاطئة أدت بالضرورة إلى تراجع إنتاجه، فقد كنا حتى تسعينيات القرن الماضي نستقبل موسم جنى القطن بالأفراح والزغاريد، وكانت الأسرة تجد من القطن وسيلة لحل مشكلاتها المتراكمة طوال العام، ومنها كانت تجهيز العرائس وإقامة الأفراح وسداد الديون، إلا أنه فجأة عزف المزارعون عن الزراعة نتيجة عدم التسويق وبدأت المصانع تستقبل القطن المستورد والذى لايتناسب مع قيمة مصر، وربما كان سبب هجرة المزارعين للقطن هو عدم تحقيق مايوزي تكلفة الزراعة، لهذا فإن اتجاه الرئيس لتصنيع القطن محليا سوف يحدث حالة من التوازن، لأن ذلك معناه تحسين الوضع المالى للمزارع نتيجة بيع المحصول، وبالتالى سوف تزيد المساحات المنزرعة واستعادة الذهب الأبيض لبريقه القديم.
ظني أن الفلاحين المصريين الآن يشعرون بارتياح شديد من اهتمام الرئيس السيسى بقضية القطن من خلال اجتماعات دورية مع الوزارات المعنية والتشديد على زراعة وتصنيع القطن المصرى، وبذلك نتوقع زيادة فى دعم المزارعين والفلاحين حاليا، والذين هم فى أشد الحاجة للدعم فى السماد والبذور والمقاومة، وفى حالة تسويق القطن بأسعار تناسب التكلفة لن يمتنع المزارعين عن الزراعة، وفي هذا الصدد نطالب بعمل مجمعات للقطن قريبة من كل القرى كما كان يحدث قديما، لتسهيل عملية النقل، خاصة أننا لمسنا وجود طفرة زراعية كبيرة من جانب المزراين نتيجة اهتمام الرئيس بالزراعة واتضح ذلك من خلال حفر وتبطين الترع ولا يبقى إلا أن تهتم الجمعيات الزراعية بتوفير الأسمدة المدعمة للفلاح حتى لا يكون عرضة للسوق السوداء التى لا ترحم، وبعد أن توج الرئيس عبد الفتاح السيسى فرحتنا بتطوير القرى ضمن برنامج (حياة كريمة) تبع ذلك باستعادة القطن المصرى لمجده مما يعد انتصارا للفلاحين، وهو ما يثبت قيم الولاء والانتماء لديهم خاصة وأن القرى أهملت سنوات طويلة.
تحية تقدير واحترام للرئيس عبد الفتاح السيسي الذي لايألوا جهد لأجل تحسين حياة البسطاء من أبناء هذا الوطن، وخاصة الفلاحون من خلال مشروع (حياة كريمة) إنطلاقا من إيمانه العميق بأن الفلاحين هم الذين يمثلون ملح هذه الأرض الطيبة التي صنعت أكبر وأهم حضارة إنسانية قائمة على الزراعة، التي حمت مصر على مدار التاريخ من مجاعات تعرضت لها الأمم الأخرى بفضل سواعدهم السمرا العفية.