لاشك أن الفيلم الإيراني "تي تي" مثير للتأمل والاستبصار بدرجة كبيرة، (حصل على تنويه خاص من لجنة تحكيم النقاد في الدورة الماضية لمهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف، كما فازت ممثلته Elnaz Shakerdoost / الناز شكيردوست، بجائزة أحسن تمثيل نسائي مناصفة مع الممثلة المصرية دميانا نصار، بطلة فيلم "ريش" للمخرج عمر الزهيري).
الإثارة هنا ليست من التثوير والتحريض الفكري، كما هي السمة الغالبة في العديد من الأفلام الإيرانية، وليست بسبب ترتيبه الرابع بين أفلام مخرجته المرموقة "آيدا بناهنده"، منحها فيلمها "ناهد/ Nahid" (2015) شهرة طَنَّانة، خصوصًا بعد فوزه بجائزة قسم نظرة خاصة في مهرجان كان، بينما يضعها النقاد بين صفوف صانعي الأفلام الواقعيين، من الإيطالي فيتوريو دي سيكا إلى الأخوين البلجيكيين داردين، إذ نزعت تجربتها الفيلمية حتى الآن، نحو وقائع العيش في مجتمعها، تحكي عن ناسه، انفعالاتهم ورغباتهم.. الواقعية أساسيّة في سردها، كذلك معاينة الأحوال والنزاعات والعلاقات المواربة، مثلما قدمت في أفلامها:" Israfil / اسرافيل" (2017)، " The Nikaidos 'Fall/ سقوط نيكايدوس" (2018)، اللذان ربحا جوائز من مهرجانات عدة.
كذلك، لا يعد توجه الفيلم نحو الموضوع النسوي وحده سببًا. صحيح أن البطلة هي محور الأحداث، وأن الحكاية تدور حول "سكينة" أو "تي تي" التي تجسدها الممثلة المعروفة إلناز شاكردوست، (بدأت حياتها التمثيلية في فيلم Ice Flower عام 2005 من إخراج Kiumars Poorahmad)، فالمنحى الأهم في هذا الفيلم هو التركيز على الحالة الإنسانية بشكل عام، من خلال قصة عالم فيزياء على وشك إثبات أطروحة حول نهاية العالم، يلتقي بامرأة تتطوع لتكون أمًا بديلة، والاثنان الرجل العلمي العقلاني والمرأة الروحية العفوية، يعملان من منظور خاص، لكنه صادق، من أجل خدمة البشرية ولإنقاذ الإنسانية.
في فيلمها "ناهد" قدمت إيدا بانهانده شخصية مثيرة للإعجاب حقًا، امرأة تعاني عن الحياة في ظل المجتمع الأبوي، لم ترغب أن تنل مصير والدتها التي ترملت في شبابها ومنحت حياتها لأطفالها، أرادت أن تحيا بطريقة مختلفة، أن تحب وتتزوج وتحتفظ بولدها المراهق من زواجها السابق، لكن القانون والطليق لا يسمحان، لا حلّ إلا بزواج غير مشهر، وهو أمر يناهضه المجتمع ويستنكره، ويضع المرأة في موقف صعب وجائر.
مثل "ناهد"، تأتي "تي تي" (المرأة هي العنوان في الفيلمين)، امرأة أخرى وُضعت في موقف مستحيل مع خيارات سيئة. الجديد هنا أنه يقدم شخصية غير تقليدية، تنتمي إلى عالم الغجر، أي أنه يتعامل مع المرأة كموضوع ويزيد عليها الإشارة إلى صورة من صور الأقليات في المجتمع الإيراني.
إذن نحن أمام حالة إبداعية باتت حاضرة في المشهد السينمائي الإيراني: نتاج متقن إلى حد كبير في التعبير بلغة سينمائية متكاملة، وموضوع من عمق الحياة الإيرانية مشغولة بحرفية لافتة للانتباه، التزمت فيه المخرجة بتقديم نسق سينمائي خاص في قراءتها اللحظة الإنسانية، أسلوب فني وجمالي فيه شيئًا من حيوية انفعالية.
يمكن القول، باختصار شديد، إن الفيلم توغل في 103 دقيقة داخل متاهة النفس البشرية، ما أفضى إلى تعرية جانب أساسي من مأزق الفرد والمجتمع، بقدر ما شكّل لحظة استكشاف جديد للمشهد الإيراني، من دون التورط الفني في التنظير أو الثرثرة البصرية، فالتقطيع بين الحكاية والأحداث والشخصيات، يغلف عمق الحالة الفردية وصراعها مع الحالة الجمعية.
اختارت المخرجة نمطًا وإيقاعًا لا يختلف عن أفلامها السابقة، لكنه حاول الاقتراب قدر المستطاع من إيقاع ودينامية الحياة المتقلبة والمتحركة في المجتمع ببعدين: المرأة والغجر، ما يعني العنصر الأنثوي الهش، وأقلية من الأقليات. أرادت أن تُظهر الحياة من منظور مختلف.
لم تلجأ إلى التجريد ولم تعمل من المرأة نموذجًا ومن الرجل نموذجًا آخر، لم تعطي المرأة البطلة "تي تي / إلناز شاكردوست" بعدًا أنثويًا شاملًا، ولم تفعل مع الرجل البطل " إبراهيم ساجدي/ بارسا بيروز Parsa Pirouzfar "، وتعطه بعدًا ذكوريًا شاملًا، بل انطلقت من انسانيتهما التي تأرجحت قليلًا بين طرفي المعادلة الصعبة، ثم أعطت البعد الذكوري للبطل الثالث "أمير ساسان" الذي جسده الممثل " Hootan Shakiba / هوتان شكيبة".
تي تي فتاة غجرية، عاملة نظافة في مستشفى، حيث تلتقي بالدكتور إبراهيم ساجدي، مصاب بورم في المخ، وأستاذ الفيزياء الذي على وشك اكتشاف عظيم فيما يتعلق بالثقب السوداء، وينقذ العالم من نهايته الوشيكة، تعجب به على الفور لأنه لا يشبه الرجال الأخرين، يعني لا يحمل امتيازًا ذكوريًا، كما تخبره في حديث لاحق بينهما.. إنها تنظر إليه ببراءة وإعجاب، تفتح عيناها الكبيرتين دهشة حين يتكلم، إنه على العكس من خطيبها أمير-ساسان، الموسيقي مفتول العضلات، المدمن على الكحول، الذي يستغلها ويسيء إليها لدرجة الضرب.
إن إبراهيم هو النموذج البرجوازي المحترم في السيناريو التي كتبته باناهانده بالتعاون مع أرسلان أميري، ويظهر التباين بينه وبين الخطيب الفوضوي، منذ مشهد الزفاف الصاخب.
أما تي تي، فإنها ساحرة شكلًا ومضمونًا، لديها قوى التحريك الذهني لتحريك كوب عبر الطاولة، من بين حيل أخرى) ولديها حساسيتها العفوية تجاه الآخرين، والاهتمام بهم والإنسانية بشكل عام، إنه هذا الإيثار النابع عن رغبتها الصادقة في المساعدة، وهو ما جعلها توافق أن يحمل رحمها طفلًا لأبوين لا يستطيعا الإنجاب بشكل طبيعي، المال الذي تحصل عليه مقابل ذلك هو شيء عرضي بالنسبة لها، سيساعد في شراء الطوب لإكمال المنزل الذي تقوم ببنائه حتى تتزوج وتستقر فيه مع خطيبها، وهو ما جعلها تسعى لمساعدة الفيزيائي، إيمانًا بأن عمله يمكن أن ينقذ البشرية. فتسبح ليلة في مياه حتى رقبتها؛ كتعويذة سحرية ليتعافى.
سرعان ما تتشابك حياتهما، عندما تطلب زوجته السابقة من تي تي أثناء غيبوبته، رمي الأوراق التي تحتوي على اكتشافاته العلمية بعيدًا، بينما تقرر تي تي الاحتفاظ بها، إذ تأخذها إلى منزلها حيث يستخدمها خطيبها لفرش أقفاص الأرانب الخاصة به، نتابع محاولات إبراهيم المحبطة لمطاردة أوراقه التي تحتوي على صيغه الفيزيائية لم يعد يتذكرها الفيزيائي، ويعتقد أنها قد تكون الحل لمشكلة الثقب الأسود التي كان يعمل عليها لسنوات، وعبر رحلته البحثية نكتشف معه الكثير عن حياة تي تي، لنجدها مستنيرة، مرحة، شغوفة بالحياة، يعاملها خطيبها كجاهلة، لا قيمة لها ويذكرها في كل مناسبة بأنها مجنونة غجرية، ليعيدها إلى التقطة صفر في مجتمع لا يعبأ بإنسانيتها.
تي تي تجد نفسها بين رجلين، خطيبها الغليط الذي يحتجز إحدى أوراق الفيزيائي كرهينة، والفيزيائي طيب القلب الذي استخدم امتيازه الذكوري لإيذاء النساء، حين رفض أن يسمح لابنته الوحيدة للسفر مع زوجته، لكنه سرعان ما يعود إلى رشده، سيما بعد أن أنجبت تي تي طفلها وأخذه منها الأب المالك للنطفة، فعانت من اكتئاب شديد، على إثره جاء مشهد النهاية الحاسم الذي قررت فيه ألا تعود لخطيبها، وألا تستمر مع الدكتور ابراهيم بالرغم من اعترافه بحبه لها، فقد اختارت أن تستكمل بناء بيتها وأن تعيش فيه وفق أحلامها هي ورغباتها، دون الارتكان على الآخرين.
البساطة أساسية في الفيلم الذي لم يقدم محاكمة لأحد، حتى وإن طفى الموضوع الأخلاقي على السطح أكثر من مرة، الخير والشر يحضران معًا ويشكلان منعطفًا أساسيًا في مسار درامي، يعكس واقعًا متعدد الأبعاد والزوايا، التقطه مدير التصوير فرشاد محمدي بأسلوب معني بإبراز حيوية الحكاية، كما عبرت عنه موسيقى علي رضا افكري، بما يبرز الحالات الانفعالية على اختلافها وتنويعاتها، وهذا ينسحب على الأداء التمثيلي المرهون بالعناصر الأخرى وبمدى إدراك الممثلين لموضوع الفيلم، وإن بدا خلل بسيط في بعض الأدوار الثانوية، لكن الأدوار الرئيسية ظهرت مدهشة.
يظل الملمح الأبرز في الفيلم هو جرأته، الجرأة المتأتية من صراحته، ومن نقطة أخرى أسهمت في ذلك وهي أن البطلة غجرية، مما يسمح بعبور مناطق شائكة كثيرة، فيعمق من الدراما ويصنع نموذجًا لامرأة، يكفي وجودها أن يكون هناك سببًا للتشبث بالحياة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة