تغيير كبير باتت تشهده المفاهيم الدولية في الآونة الأخيرة، في ظل مستجدات وأحداث، وتغييرات عميقة في بنية النظام العالمي، لتتحول تلك المصطلحات، التي طالما حاربتها القوى الدولية الحاكمة، باعتبارها مناوئة لمبادئها، إلى قواعد ربما تسطر شكل العالم الجديد، في ضوء التغيير الكبير في شكل الأزمات الدولية، والتي لم تعد تقتصر على نطاق محدود، سواء دوليا أو أهليا، وانما باتت عابرة للحدود، مما يساهم بصورة كبيرة في تشديد القيود، فيما يتعلق بكل مناحي الحياة، بدء من حركة المواطنين وحرياتهم، وحتى قواعد العمل والسلوك البشري، لتصبح "الحرية مطلقة" في خانة الفوضى، بينما مصطلحات، على غرار "الطواري" بمثابة ضرورة ملحة لمجابهة التحديات الراهنة.
وهنا يبدو أن ثمة تحول كبير، فالمفاهيم "سيئة السمعة"، والتي كانت وسيلة للتضييق على الخصوم الدوليين من قبل القوى الدولية الحاكمة في ظل ابتعاد التهديدات عن أراضيهم، أصبحت بمثابة "فرضا" على الجميع، إلى الحد الذي يدفع إلى الدعوة الصريحة لها في بعض الأحيان من قبل دعاة الديمقراطية، وأنصار الحرية، خاصة مع أخطار كبيرة باتت على حدودهم، بدء من الإرهاب والصراعات المسلحة، على غرار العملية العسكرية الروسية الراهنة في أوكرانيا، ناهيك عن الصراع مع الطبيعة، في ضوء ظاهرة التغير المناخي، وكذلك الوباء، وهي الأمور التي دفعت إلى فرض حالة من الطوارئ الدولية، سواء على المستوى العالمي، تتجلى في تقييد حركة التجارة والسفر، أو داخل الدول، عبر التضييق على المواطنين، ومن بينها دولا طالما نأت بنفسها بعيدا عن تلك المفاهيم، بل حملت لواء الحرب عليها لعقود طويلة، تحت شعار "الانتصار للحريات" بينما كانت في الحقيقة بمثابة "العصا" التي حاولوا بها ردع "المارقين".
فلو نظرنا إلى مفهوم "الطوارئ" باعتباره النموذج الأبرز، في المرحلة الراهنة، ربما نجد أنه بات يتخذ أبعاد جديدة، تتجاوز البعد الأمنى الذى كانت تعتمده الدول قبل سنوات قليلة، وإن كان باقيا، في ظل عودة زمن الحروب، على غرار المستجدات التي تشهدها الساحة الأوكرانية في المرحلة الراهنة، وهي المعركة التي لم تقتصر في نطاقها على صراع ثنائي بين دولتين، وإنما تحمل في طياتها تداعيات صراع طويل الأمد بين الغرب والشرق، وهو ما يعكس خطورة الامر ليس فقط على رقعة جغرافية محدودة، وإنما تمتد إلى مساحة شاسعة تتداخل فيها أوروبا والولايات المتحدة، بينما لا تبتعد عنها قوى دولية أخرى، على غرار الصين، بينما تمتد أثارها إلى مختلف قارات العالم، إثر ما سوف تؤدى إليه من نتائج سوف تنعكس مباشرة على حياة البشر هنا أو هناك، مما يفرض حالة من التأهب العسكري والامني في مواجهة خطر الحرب القائمة التي قد تأكل الأخضر واليابس.
البعد الأمنى يمتد، في إطار مفهوم "الطوارئ" على العديد من المناحي، منها أمن الطاقة، والأمن الاقتصادي ناهيك، في ظل ارتباط المصالح بين الدول، خاصة في أوروبا الغربية، وطرفي الصراع من جانب آخر، فالغرب يعتمد بصورة كبيرة على الغاز الروسي وهو ما يؤثر حال الإخلال بالعلاقة مع موسكو على الاقتصاد، وهو ما يرتبط بحياة المواطنين بصورة مباشرة وبالتالي التضييق عليهم بصورة أكبر في حالة ممارستهم لحقهم في "حرية التعبير"، بينما يرتبط بأوكرانيا سياسيا، في التزامهم بالتحالف الغربي تحت المظلة الأمريكية.
ولعل البعد الأمني ليس الجانب الوحيد لمفهوم "الطوارئ"، وإنما أصبح هناك أبعاد أخرى، منها، على سبيل المثال الطوارئ الصحية، في ظل الوباء، حيث تبقى قيود كورونا سببا رئيسيا في اندلاع التظاهرات في العديد من مناطق العالم، بسبب ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية، على غرار احتجاجات "قوافل الحرية"، التى اجتاحت عواصم أوروبا وكندا، إلى الحد الذى دفع رئيس الوزراء الكندى جاستن ترودو لاستدعاء حالة الطوارئ بل استبقته الولايات المتحدة بدعوة السلطات الكندية لاستخدام صلاحياتها لانهاء مظاهرات عطلت العمل بجسر حيوى بين البلدين.
التطورات المناخية هي الاخرى ربما فرضت بعدا اخر لمفهوم "الطوارئ"، في إطار ما سبق وأن أسميته حقبة "البيئوقراطية" العالمية، في ظل قواعد باتت تفرض نفسها على مختلف القطاعات حول العالم بدء من الصناعة مرورا بالتجارة والزراعة وحتى السلوك البشرى العادى، الذى اصبح مقيدا باحترام البيئة، وذلك حتى يمكن مجابهة الخطر المحدق بالكوكب بأسره.
وهنا يمكننا القول بأن التغيير الذى بات يشهده النظام العالمي لم يعد قاصرا على تغير موازين القوى، أو توارى دول مقابل صعود أخرى، أو حتى تغير القواعد الحاكمة في النظام العالمي، وإنما امتدت إلى تغيير الصورة الذهنية المرسومة عن المفاهيم المتداولة، لتصبح جزء لا يتجزأ من الخريطة الدولية الجديدة، بعيدا عن التابوهات "المعلبة" التى دأب الغرب على تصديرها، دفاعا عن مبادئ سعوا إلى تسييسها لتحقيق مصالحهم، بعيدا عن المعطيات والظروف التي ترتبط بكل منطقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة