ربما ولدت القيادة الأمريكية للعالم من "رحم" الصراع، بمختلف مفاهيمه، بدءًا من الحرب العالمية الثانية، والتي فرضت فرضا على إدارة فرانكلين روزفلت، والتي آثرت نهجا محايدا في بداية الأمر، لتخوض المعركة بعد بدايتها بأكثر من عامين، وتقود "الحلفاء" للانتصار على "المحور"، لتجد طريقها بعد ذلك في القيادة من خلال، المعسكر الغربي، في مواجهة الكتلة الشرقية الشيوعية، بقيادة الاتحاد السوفيتى من خلال الحرب الباردة، لتحقق انتصارا جديدا بانهياره، وتنفرد بالهيمنة الدولية، حيث أصبحت الساحة خالية من القوى القادرة على منازعة واشنطن، في السيطرة على مراكز صناعة القرار الدولي، تزامنا مع بزوغ نجم الاتحاد الأوروبي، والذى يبقى مواليا للولايات المتحدة، إلا أنه في الوقت نفسه يمثل "مشروع" منافس في المستقبل، سواء على المدى المتوسط أو الأبعد نسبيا، وهو ما خلق ارتباطا، من وجهة النظر الأمريكية، بين استمرار "حالة" الصراع من جانب، واستمرار الهيمنة الدولية، خاصة للغرب، والذي يمثل الشريك الأكبر لواشنطن من جانب آخر.
الارتباط بين مفهوم الصراع والقيادة، لدى الرؤية الأمريكية، كان الدافع الأبرز لواشنطن نحو انتهاج سياسة جديدة، تقوم "خلق" الصراع، عبر استحداث عداوات "هلامية" فضفاضة، تحمل بعدا جماعيا، لتكون استنساخا للصراعات التي فرضت عليها، عبر فرض تلك الصراعات على حلفائها، على غرار "صراع الحضارات"، والذى أرساه السياسي الأمريكي صموئيل هنتنجتون، عبر مقال تحول إلى كتاب في التسعينات من القرن الماضي، بينما كان التطبيق العملي بعد ذلك بسنوات معدودة، في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، حيث قامت فكرته على تحول وجهة الصراع من شكله السائد بين الأيديولوجيات (الشيوعية والرأسمالية)، إلى اشتباك جديد بين الحضارتين الغربية والإسلامية، وهو ما يجد ترجمته في الخطاب العدائي التي تبنته واشنطن، ومن ورائها الغرب الأوروبي، تجاه الدين الإسلامي مع بداية الألفية الجديدة.
وهنا أصبحت القيادة الأمريكية مرهونة بحالة دائمة من "البحث عن صراع"، يمكنها من خلاله القيادة في مواجهة تهديدات، في جوهرها "هلامية"، وهو الأمر الذى ساهم في الانفراد الأمريكي بالهيمنة على العالم، والذى دام لأكثر من 3 عقود من الزمان، إلا أنه، في الوقت نفسه، كان مكلفا للغاية، سواء من الناحية الاقتصادية، أو الخسائر البشرية، نظرا لانغماس الولايات المتحدة في مستنقع الحروب في العديد من المناطق حول العالم، ناهيك عن دورها في حماية أمن حلفائها، لتجد واشنطن نفسها في نهاية المطاف مضطرة إلى الانسحاب "شبه الكامل"، من العديد من المناطق، وربما القضايا الدولية والإقليمية، وهو ما بدا في حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، الذى لوح بالانسحاب من الناتو، ناهيك عن خروجه من سوريا، بينما استكمل بايدن المسيرة عبر الانسحاب من أفغانستان والعراق، لتكون تلك الخطوات في مجملها تمهيدا لفصل جديد من الصراع الدولي، ولكن ليس مخططا هذه المرة، على الأقل بالكامل، من قبل الولايات المتحدة.
ولعل الانسحاب الأمريكي المتواتر من مناطق تعانى من عدم الاستقرار يمثل في جوهره هزائم دولية مدوية بحق القوى الأكبر في العالم، خاصة وأنه يفتح الباب أمام المنافسين الدوليين الأبرز، وعلى رأسهم روسيا والصين، نحو الانطلاق لملء الفراغ الأمريكي الناجم عن غياب واشنطن المفاجئ، وبالتالي توسيع نفوذهم بصورة كبيرة، سواء سياسيا أو جغرافيا، أو حتى شعبويا، مع تصاعد ثقة الرأي العالمي في تلك القوى الجديدة القادرة على القيام بدور محوري في حماية مناطق النزاع، في الوقت الذى تراجعت فيه النظرة بصورة كبيرة للولايات المتحدة، ليس فقط في المواقع التي شهدت الخروج الأمريكي، وإنما أيضا من جانب الحلفاء التاريخيين، الذين ساهموا بالدور الأكبر في الاحتفاظ بدورها القيادى في العالم لما يقرب من ثمانية عقود.
تراجع الثقة الدولية في القدرات الأمريكية، ربما دفعها نحو "بحث جديد"، عن انتصار، يعيد إليها قدرا من الزخم الدولي، في ظل حملات قوية للتشكيك فيها وهو ما يبدو، على سبيل المثال في عمليات "نوعية" تستهدف قيادات الإرهاب، على غرار زعيم داعش في سوريا أبي إبراهيم القريشى، ليصبح المشهد تكرارا لمشاهد سابقة ارتبطت بمثل هذه العمليات، أبرزها تصفية أسامة بن لادن في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، ثم حمزة بن لادن وأبو بكر البغدادى، في عهد دونالد ترامب، حيث أعقبها جميعا صورة الرئيس وكبار المسئولين في إدارته مجتمعين في غرفة العمليات، تكسو وجوههم علامات القلق، بينما يخرج في النهاية سيد البيت الأبيض، ليعلن "انتصاره" متباهيا، ربما في رسالة مفادها "مازلنا قادرين".
في الواقع أن صورة بايدن في غرفة العمليات أثناء متابعة تصفية زعيم داعش، ما هي في حقيقتها إلا امتداد لصورتى أوباما، وترامب، خلال عمليات مشابهة لتصفية بن لادن الأب والإبن، على الترتيب، ربما تحمل في طياتها هدفا صريحا بالترويج لقدرات واشنطن على تحقيق الانتصار على الإرهاب، إلا أنها تحمل في طياتها "عجزا" حقيقيا عن تحقيق أهداف واسعة المدى فيما يتعلق بالمبادئ التي سبق وأن وضعتها أمريكا على كاهلها، وعلى رأسها الحرب على الإرهاب، والتي اختزلتها في مقتل قيادي، قد يكون متقاعدا، في جماعة إرهابية، حتى تستخدم آلتها الإعلامية بعد ذلك للترويج له باعتباره "فتحا" مبينا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة