انقسام وشكوك وجذور تاريخية متشابكة.. هذا هو مشهد الكنائس في أوكرانيا وروسيا بعد الحرب التي تقترب من شهرها الأول، حينما تحركت القوات الروسية في الشرق الأوكراني، لتعلن عن عملية عسكرية هدفها ـ من وجهة نظر الروس ـ حماية المدنيين في إقليم دونباس. فما بين خريطة معقدة للتركيبة السكانية الأوكرانية تتضمن غالبية أرثوذكسية، وأقلية كبيرة من الكاثوليك وأقليات آخري من البروتستانت واليهود والمسلمين، وما بين رئيس يهودي الديانة، لم يلتفت كثيراً لملف الكنيسة داخل البلد الحالم بالانضمام للاتحاد الأوروبي.. فكان حقل الألغام معداً للانفجار، لتصيب شظاياه الجميع مع انطلاق الرصاصة الأولي في الحرب، ليلة 24 فبراير الماضي.
وبخلاف كافة النقاط الخلافية والملفات المرشحة للانفجار في الأزمة الأوكرانية ، بما في ذلك الحلم الأوكراني بالانضمام للناتو والالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي، كان ملف الكنيسة ـ ولا يزال ـ من أكثر الملفات الشائكة ، التي ربما لم يلتفت لها الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي، بخلاف سلفه الرئيس بيترو بوروشينكو، الذي قدم رابطًا مباشرًا بين الاستقلال الديني والسياسي عندما قال في 2018: "استقلال كنيستنا هو جزء من سياساتنا المؤيدة لأوروبا والموالية لأوكرانيا".
أسلحة داخل دير كولوميا تثير الشكوك
الانقسام والولاء الكنسي المتضارب خلال الحرب الأوكرانية، كان محور تقرير لصحيفة جارديان البريطانية ، قبل أسبوعين ، حيث شككت في تقرير لها في ولاية الكنائس الأوكرانية للقيادة السياسية في كييف ، وقالت إن بعض الكنائس الأوكرانية ترتبط بولاء تاريخي تجاه روسيا ، برغم انفصالها رسمياً عن الكنيسة الروسية قبل 3 سنوات ، ونقلت عن مواطنين ورجال دين أوكرانيين مخاوف من احتمالات أن تكون تلك الكنائس منحازة لروسيا في الحرب الدائرة حتي الآن.
وفى تقريرها، قالت الصحيفة البريطانية إن حالة من الصدمة سيطرت علي أفراد من القوات الأوكرانية حين ذهبوا للبحث عن مصدر لأشعة ليزر شك البعض أن يكون محاولات لاستهداف قاعدتهم العسكرية غرب البلاد، وكانت المفاجأة حين وجدوا أن المصدر يخرج من كنيسة قريبة في منطقة كولوميا يديرها رهبان روس واكتشفوا أيضا وجود مخزون كبير من الطعام والمشروبات الكحولية بالإضافة الى 3 بنادق جاهزين للاستخدام العسكري.
كنيسة أوكرانيا
قال الأب ميخايلو أرسينخ ، قسيس في الوحدة الأوكرانية التي فتشت الكنيسة، بحسب الجارديان: "إنه أمر مفاجئ للغاية ، لأنه كان ديرًا.. كان هناك مخزون كبير من الطعام، معبأ للاستخدام العسكري، ومصمم لاستيعاب 60 إلى 65 شخصًا لفترة طويلة جدًا".
وأضاف: "وجدنا مسدسين وبندقية صيد تم تحويلها من بندقية كلاشينكوف قتالية.. وعند سؤالهم عن سبب الحيازة لم يتمكنوا من إجابة السؤال عن سبب احتياج القساوسة للبنادق ".
الكنيسة والسياسة.. خطاب الحرب والأزمة
واقعة دير كولوميا كانت حلقة من سلسلة معقدة قبل وأثناء العملية الروسية في أوكرانيا، ففيما أقحم القساوسة ما هو سياسي بما هو دينى.. خلط المسئولون في موسكو وكييف ما هو دينى بما هو سياسى.
وكان الرهان علي دعم الكنيسة حاضراً قبل انطلاق العملية العسكرية الروسية ، ففي خطاب ألقاه الرئيس الروسي يوم 21 فبراير ، سعى بوتين إلى تبرير الحرب التي لم تكن قد بدأت بعد، وقال إن كييف كانت "تستعد لتدمير الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو".
ولم يختلف خطاب بوتين كثيراً قبل 8 سنوات، ففي عام 2014 ، حينما استولت روسيا علي شبه جزيرة القرم ، وصف الرئيس الروسي تلك الأرض بـ"المقدسة" بالنسبة لروسيا، كما هو الحال بالنسبة للمسجد الأقصى وجبل الهيكل في القدس بالنسبة للمسلمين واليهود". وتابع :بالقرم.. في خيرسونيسوس القديمة ـ التي أصبحت سيباستوبول لاحقاـ تعمد الأمير فلاديمير قبل أن يبدأ تعميد روسيا.. هناك تقع الجذور الروحية للوحدة التاريخية للأمة الروسية وللدولة الروسية المركزية. على هذه الأرض، فهم أجدادنا أنهم شعب واحد، إلى الأبد".
وبعد الحرب الأخيرة، قدم أسقف الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وبطريرك موسكو وعموم روسيا البابا كيريل، خطاباً داعماً للعملية الروسية في أوكرانيا ،معتبراً أنها حرب ضد من يحاولون انتهاك "القانون الإلهي".
وقال البابا كيريل في عظة ليلة 6 مارس الجاري، إن الحرب في أوكرانيا تدور حول "الرفض الجوهري لما يسمى بالقيم التي يقدمها اليوم أولئك الذين يدعون أنهم القوى العالمية وأن الاختبار حول الجانب الذي تقف معه، وما إذا كان بلدك على استعداد لتنظيم مسيرات فخر المثليين.
وتابع البابا: "من أجل الدخول إلى نادي تلك البلدان، من الضروري إقامة موكب فخر للمثليين. ليس لإعلان موقف سياسي، ليس للتوقيع على أي اتفاقيات، ولكن لإجراء مسيرات فخر للمثليين".
وأضاف: "إذا رأينا انتهاكًا للقانون الإلهي، فلن نتسامح أبدًا مع أولئك الذين يفسدون هذا القانون، ونطمس الخط الفاصل بين القدسية والخطيئة، بل وأكثر من ذلك مع أولئك الذين يروجون للخطيئة كمثال أو كأحد نماذج السلوك الإنساني"، وتابع بالقول: "هناك حرب حقيقية حول هذا الموضوع اليوم".
في المقابل، كان رد فعل الميتروبوليت أونوفري، راعي الكنيسة الأوكرانية، الذي شبّه الحرب بـ "خطيئة قابيل" الذي قتل شقيقة هابيل، يشير إلى أنه حتى الكنيسة التي تميل إلى كنيسة موسكو لديها شعور قوي بالهوية الوطنية الأوكرانية.
وكانت رواية "قابيل وهابيل" حاضرة بكثرة في خطاب العديد من رجال الدين الأوكرانيين علي مدار الحرب الدائرة ، بل إن بعضهم اعتبر الرئيس الروسي فلادمير بوتين بشكل واضح "قابيل هذا العصر"، مثلما قال ايوف أولشانسكي الكاهن في دير القيامة الأرثوذكسي الجديد في مدينة لفيف بغرب أوكرانيا الذي قال "الرئيس الروسي هو قايين (قابيل) اليوم".
هذا بخلاف اتهام الكنيسة الروسية والكرملين بالكذب. ففي تصريحات نشرتها شبكة فرانس 24 ، قال الأب نيكولاي دانيلفيتش : "الكذب خطيئة والسلطات الروسية تكذب. وقد صدقها الكثيرون.. قال المسؤولون هناك إنه لن تكون هناك حرب، وإنهم لم يخططوا لأي شيء لذلك فإن الهجوم الروسي خيانة كسرت جميع أشكال الثقة".
بدوره، عبر كاهن كنيسة أوبوخيف الأوكرانية عن حزنه في مقابلة بعد انتهاء القداس قائلا: "هذا بلدنا وهذه أرضنا وهذا شعبنا.. فكيف يمكننا أن نظل غير مبالين.. نصلي لجيشنا، ونصلي لأمتنا، لأننا أمة"، ردا على إنكار بوتين وجود أمة أوكرانية. وتابع: لا يمكنني حمل السلاح، وسلاحي الوحيد هو الصلاة".
وبحسب فرانس 24 ،دعت مجموعة من الكهنة الأوكرانيين من منطقة لفيف إلى عقد اجتماع وطني للكنيسة لإعلان استقلالها رسميا عن موسكو، وأطلقت هذه الدعوة أمام كنيسة القديس جاورجيوس، مقر الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في لفيف بجانب آخر يعدد احتياجات المقاتلين الأوكرانيين.
جذور تاريخية
ويوجد في أوكرانيا كنيستين أرثوذكسيتين متنافستين: واحدة مستقلة وأخرى تابعة لبطريركية موسكو. ونظرا لتاريخها القديم الذي يمتد 300 سنة، فإن هذه الأخيرة تعد الأكبر في أوكرانيا لاحتوائها على عدد أبرشيات أكبر.
تاسيس كنيسة مستقلة باوكرانيا عن كنيسة روسيا
وقد ساهمت الحرب الأخيرة في تعميق الخلاف بين رجال الدين في موسكو والفرع الأوكراني لبطريركية موسكو.
وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، انقسمت الطائفة الأرثوذكسية في أوكرانيا إلى ثلاثة فروع: فرع تعهد رجال الدين فيه بالولاء لبطريركية موسكو، وآخر تابع للبطريركية التي تأسست حديثا في كييف وكنيسة أوكرانية ارثوذكسية مستقلة أصغر. ىلكن هذا تغير بعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 ، ثم دعمت الانفصاليين الذين شكلوا منطقتين منفصلتين غير معترف بهما في شرق أوكرانيا. أدى هذا النزاع الى مقتل حوالى 13 ألف شخص.
وبعد أربع سنوات من ضم شبه جزيرة القرم، اعترفت بطريركية القسطنطينية المسكونية ومقرها إسطنبول باستقلالية كييف دينيا، مما أتاح إنشاء كنيسة أوكرانية موحدة.
وخسرت الكنيسة الروسية العديد من أعضائها لصالح الكنيسة الأوكرانية الموحدة الجديدة لكنها ظلت ثاني أكبر طائفة في البلاد. فقد أفاد استطلاع للرأي أجري في 2021 أن 58% من المؤمنين الارثوذكس يعتبرون أنهم أعضاء في الكنيسة الموحدة الجديدة مقابل 25% لا يزالون تابعين لبطريركية موسكو.
وفي تصريحات نشرتها شبكة "سي إن إن" قالت ماريانا كارابينكا -رئيسة قسم الاتصالات في الكنيسة الكاثوليكية الأوكرانية في فيلادلفيا: "في كل مرة تستولي فيها روسيا على أوكرانيا، يتم تدمير الكنيسة الكاثوليكية الأوكرانية.. فقد تعرض الكاثوليك الأوكرانيون لقمع شديد من قبل السوفييت، حيث استشهد العديد من الرموز هناك. وواصل العديد من الكاثوليك الأوكرانيين العبادة تحت الأرض، ولم تنتعش الكنيسة بقوة إلا بعد نهاية الشيوعية".