وقف الشريط في وضع ثابت
دلوقت نقدر نفحص المنظر
مفيش ولا تفصيلة غابت
وكل شيء بيقول وبيعبر
من غير كلام ولا صوت
ربما كانت كلمات الشاعر صلاح جاهين هى الأكثر تعبيرا عن تلك الدقائق التي مرت بها "أنيسة حسونة" حين أبلغها الطبيب بجمود أنها مصابة بالسرطان، رغم محاولات أسرتها إخفاء الخبر عنها لحين التأكد من نتائج التحاليل، في لحظات ثقيلة تسحب الهواء من حولك، وتلقي بجبال من الأحمال الخفية التي تشعرك بالعجز أمام ثقلها البغيض، حاولت (أنيسة) أن تجد في الإنكار مفرا من العدو الصامت الذي يخبرها الأطباء أنه احتل جسدها من دون استئذان، معلنا عن رغبته في بدء مهمته الأزلية في التدمير، تساقطت الأسئلة على رأسها كالأمطار لماذا أنا؟، ليس اعتراضا على الأقدار، وإنما محاسبة للنفس التي لا تعرف هل هو ابتلاء أم عقاب على خطأ ما؟ حسنا، سأتجاوز الأمر، فأبلغها الطبيب أن ما تبقى من الحياة هو 5 سنوات ربما أقل.
لكن رغم الإرادة الفولاذية لأنيسة حسونة الملقبة بسفيرة القلوب، إلا أن القدر كتب الكلمة الأخيرة، ورحلت عن عالمنا قبل أيام قليلة، فلم يعد في هذا القلب مكانا لمزيد من الألم، خاصة بعد الجولة الثالثة التي كشر فيها السرطان عن أنيابه رافضا الهزائم السابقة في الجولتين السابقتين، تقول أنيسة حسونة إنها كانت تشاهد فيلما عربيا قديما للفنانة فاتن حمامة حول سيدة أخبرها الأطباء أنها ستموت في الربيع، فظلت أنيسة تنظر إلى شجرة أمام منزلها تحدثها هل سأعيش إلى الربيع القادم عندما تتفتح أزهارك أم ستتساقط أوراقي؟، كان الموت كان حاضرا في كل الأحوال، فاستسلمت بهدوء سيدة بثت الأمل في القلوب لسنوات طويلة، واجهت السرطان بالحب والإيمان، وحتى وإن انتزع منها حياتها، فلم يحرمها من التمتع بهدايا السماء التي تمثلت في دعم ودعوات كل من عرفها أو شاهدها يوما.
توفيت أنيسة حسونة، شجرة الربيع المزهرة، وتركت في تجربتها التي دونتها في كتاب (بدون سابق إنذار.. قصتي مع السرطان)، مواقف مفعمة بالأمل والمحبة وإعادة الحسابات.. في رسالة مفادها خلال الصراع مع الابتلاءات، لدينا دائما مساحة تضم من نحبهم، فلا تنشغل عن أولوياتك، و قالت (حسونة) في منشور لها: (في مثل هذا الوقت من العام الماضي جلست أستمع في ذهول للطبيب الذي نصحني بترتيب أموري المادية وغيرها قبل موعد مغادرتي المحتوم لهذه الحياة، لم أفهم كلماته حينها أو أستوعبها فانزلقت بوقعها القاسي على إدراكي، وكأنها قطرات ماء تنزلق على زجاج دون أن تترك به أثرا، بينما ظللت جالسة أمامه في سكون وزوجي والبنات مثلي، وعقلي يدور بسرعة 360 درجة في الثانية بين مختلف الاحتمالات، وأنا غير مصدقة أن ذلك يحدث لي في الواقع، وأنني قد أصبت بهذا المرض الخطير فعلا).
وأضافت ملاك الرحمة الذي كان يسير على قدمين: (استمريت في النظر إلى وجهه وهو ما زال يتحدث وأنا أتساءل في ذهني ماذا أفعل هنا؟ لا بد أن هذه الإشاعات وتقريرها يخصان مريضة أخرى، وأن خطأ ما حدث بتسليمها لي كما يحدث في الأفلام السينمائية، وأن شخصا سيفتح باب الغرفة فجأة ويعتذر عن هذا الخطأ الجسيم، ويخبرني أن نتائج الأشعة الخاصة بي سليمة وأنني على ما يرام، وبالتالي نتنفس الصعداء ونغادر جميعا المركز الطبي سعداء ونعود لحياتنا العادية، ويمكنني بعد ذلك أن أضيف هذه القصة إلى محصول القصص الكوميدية التي نحكيها عما يحدث لنا).
وتابعت المؤمنة الصابرة بقدرها المحتوم: (عندما خرجت جزئيا من حالة الذهول التي أصابتني بدأ ذهني يتساءل لماذا أصابني أنا السرطان؟ وكيف؟ ولماذا أنا بالذات؟ فأنا لم أتسبب في إيذاء أحد طوال حياتي وعاملت الناس دائما بالحسنى كما أحب أن يعاملوني وكنت دائما ودودة لأن الابتسامه صدقة، فهل الإصابة بهذا المرض عقاب على ذنب ارتكبته؟ أم أن معاناتي المتوقعة ستكون في ميزان حسناتي وتقلل من ذنوبي في الآخرة؟.. أيا كان الأمر فأنا لا أرغب أن أكون مصابة بالسرطان، وبينما أدرك أنني يمكن أن أغادر الحياة في أي لحظة ولأهون سبب، ولكني لا أريد أن أعرف أن مصيري قد أصبح محتوما قريبا بسبب المرض).
ولأنها بشر ضعيف النفس والروح طرحت (حسونة) مجموعة من التساؤلات: (هل معنى ذلك أنني لن أعيش لأشاهد أحفادي يكبرون وأفرح بنجاحهم؟ وماذا سيجرى لي نتيجة العلاج شديد الوطأة والذي أسمع أنه يهاجم الخلايا السليمة مثلما يهاجم الخلايا الخبيثة؟ وهل سأحتمل نظرات الشفقة ممن يحيطون بي؟، وهل ذهبت أحلامي بشأن خططي المستقبلية مع عائلتي أدراج الرياح؟ وهل سأستطيع مواجهة الناس بحقيقة مرضي أم سأخشى مثل الكثيرات الخروج علنا للحديث عن مرضي ومعاناتي خوفا من استهجانهم أو دهشتهم؟).
وأكملت: (بعد صمت طويل وتردد أطول لشهور طويلة قررت أن أتصرف بطبيعتي وأواجه مخاوفي من احتمال عدم تقبل الآخرين لمظهري الجديد بعد خضوعي للعلاج من مرضي المفاجئ، فالكثير ممن حولنا يتوقعون منا أن نظل دائما في أحسن صحة وحال رافضين قبول أي علامات ضعف أو مرض علينا، وكأنه من قدر النساء في عالمنا أن يتحملن آلامهن في صمت حتى يستطيع الآخرون أن يستمروا في الاعتماد عليهن باطمئنان كالعادة، ولذلك فإنه اعتمادا على الدعم المستمر من عائلتي استجمعت شجاعتي بعد أن سئمت التظاهر بأن كل شيء على ما يرام، وقررت أن أشارككم تجربتي الواقعية مع مرض السرطان الخطير، والذي فتح صفحة جديدة غامضة في حياتي وحياة عائلتي وغير من مظهري وجوهري بتأثير العقاقير والجراحة وجلسات العلاج الكيمياوي).
وأشارت (أنيسة البشر وجليسة الضغفاء أمام المرض الخبيث) إلى أنها جاهدت نفسها طويلا للتظاهر بأن كل شيء يسير كالمعتاد: (أؤمن الآن أن الوقت حان لكي أخرج إلى العلن وأفتح لكم قلبي بشأن قصتي مع السرطان، وماذا حدث فيها وما هو مصيري المنتظر وفقا لما يظنه الأطباء، وأعتقد أن هذه المصارحة الشخصية التي تستلزم قدرا كبيرا من الشفافية تساعدني على مواجهة الحياة بشكل أفضل، فأنيسة ستظل كما هى في نظر من يحبونها، فإصابتها المرضية لن تغير فيما ترغب فيه من هذه الحياة بل ربما ستعيد ترتيب أولوياتها بشكل أفضل وأكثر واقعية، وتفتح آفاقا جديدة للاستمتاع بنعم الحياة الكثيرة في فترة أقصر بينما تدق ساعة العمر).
ومع كل معاناتها وإحساسها المرهف بمعاناة البشر قالت (حسونة): (أملي أن تسهم تجربتي الخاصة في إعلام الآخرين بالمزيد عن هذا المرض الخبيث وزيادة الوعي حوله، وربما تلهم البعض الآخر من المصابين به بضرورة الاستمرار في مكافحته مهما كانت الظروف، وفي جميع الأحوال فأنا لن أستسلم، ولن أرفع الراية البيضاء أمام هذا المرض مهما كانت خطورته؛ فأنا لم أشبع من أحفادي بعد، ولم أحتضن وأُقبل بنتي بما فيه الكفاية، وأحزن على ما سيفوتني من متع صغيرة كثيرة كنت أدخرها لرحلاتنا المقبلة معا، ولا أرغب في أن أختفي من حياتهم بعد، فحياتي هى حياتهم، والعمر ليس له قيمة بدون وجودهم حولي ومعي).
ومع إيمانها العميق بقدرة الله عز وجل رحلت (أنيسة حسونة) في ربيع الأيام الصعبة تاركة الأمل والدعاء من أصحاب المرض اللعين، بعد أن كرمتها مصر رئاسيا، واحتفت بحضورها الإنسانى بعطفة كريمة حرم الرئيس السيدة (انتصار السيسى) فى اليوم العالمى للمرأة، وتم تكريمها تقديرا لدورها فى العمل الخيرى، لتضرب لنا المثل والقدوة في العطف والحنان لمرضي السرطان من الكبار والصغار وهى تحتمل آلامها المبرحة.. أي قدرة تلك التي كانت تحملها هذه السيدة العظيمة بين جوانحا حاملة مشاعل الأمل في تخفيف الألم عن بني وطنها؟!.
والدكتورة أنيسة، بحسب زميلنا الكاتب الصحفي (حمدي رزق)، كانت تحوز ابتسامة واسعة تشرق على الشاشات تبعث الأمل فى النفوس المتعبة، وتفتح طاقة نور فى نفوس غشيتها ظلمة الحزن من قسوة الألم، من جرب قسوة الألم، الألم يبعث الأمل، السرطان وحش كاسر لا يهزمه سوى الأرواح القوية، وأنيسة هانم كانت روحها قوية، وطلتها ذكية، وفهمها لدورها فى سياق عمل الخير نموذجى، ولعل إقبال المتبرعين على مستشفى الست أنيسة كان لافتا، سيدة تعطى بإيثار، ولا تدخر وسعا من أجل تخفيف الأوجاع، من جرب الألم يخش منه على الناس، وأنيسة هانم جربت الألم وخاضت معركة بطولية مع غول السرطان، جولات ماراثونية حتى ارتاحت (وقابلت وجه كريم)، الجنة ونعيمها إن شاء الله.
الراحلة الكريمة تجيد رسم السعادة فوق شفاه متعبة يبقى لها فى ميزان حسناتها، كانت زكية تبتكر طرقا وأساليب لبعث الأمل فى قلوب عليلة، أصعب الألم ألم الطفل، لا يعبر عن ألمه الذى يعتصره، فى أمس الحاجة إلى ملاك حارس، والملاك أنيسة سجلت حضورا قويا فى حياة كثير من الناس بمستشفى الناس، لا أملك سوى الدعوة بإخلاص للتبرعات فى شهر الكرم.. وفاء لسيدة كريمة، معلوم الناس الطيبة للناس الطيبة، والدكتورة طيبة الذكر كانت تملك طيبة بلا حدود وروحا تواقة لعمل الخير وهى تعتصر ألما وحزنا على من هزمه المرض ونال من حياته.
السلام والرحمة لروح (أنيسة حسونة) التي اختارتها في 2014 مجلة (أرابيان بيزني) الدولية ضمن أقوى 100 امرأة عربية، في مجال المجتمع والثقافة، لتاريخها المهني والإنساني، قبل أن يدفعها القدر لاختبار صعب، ظلت تقاوم لاجتيازه منذ العام 2016، حتى يوم 13 مارس 2022، تاريخ آخر أنفاسها على وجه الأرض، وتوفيت متأثرة بمرض السرطان عن عمر يناهز 69 عاما، وهى من مواليد القاهرة 22 يناير 1953،، وكان آخر ظهور لها - رحمها الله وجعل مثواها الجنة - خلال حفل التكريم الذي شهدته حرم الرئيس السيدة انتصار السيسي في اليوم العالمي للمرأة وتم تكريمها تقديرا لدورها وجدها في العمل الخيري .
وكان آخر المشاريع الخيرية التي شاركت بها الراحلة تأسيس مستشفى (الناس) للأطفال لتقديم الخدمة المجانية للمرضى، ورغم النجاحات الإنسانية التي حققتها، لم تكن تعرف أنيسة حسونة أنها على موعد مع ضيف ثقيل لايرغب أحد في استقباله، إنه السرطان الذي يسلب البهجة، والذي تمكن من جسدها بدون سابق إنذار، وأعلن انتصاره في جولته الثالثة معها، وانتهت جولاتهما على حلبة الصراع بوفاة سيدة نجحت رغم آلامها على مدى 7 سنوات أن تنشر الأمل لكل محاربين السرطان والنساء بصورة خاصة، وهى التي لم تخف ابتسامتها الدائمة مشاعر الخوف من الموت وانتظاره، كانت تدرك جيدا أنها في رحلة نهايتها الموت، كانت فقط تحاول أن تسابق الزمن في الوصول إلى القلوب المكلومة التي أصيبت بمرض السرطان اللعين، لتخبرهم أن الحياة رغم صخبها، تستحق أن تولي لها اهتماما بتفاصيلها الصغيرة، التي قد تتمثل في الاستمتاع بالنظر في وجه الأبناء والأحفاد، ولقاء الأصدقاء، وبعض الأعمال الإنسانية، وفنجان قهوة يذكرنا أن للدنيا مذاقا مبهجا رغم مرارتها.. رحم الله (أنيسة حسونة) ملاك الرحمة والإنسانية.. وجعل الله كل أعماله الخيرية في ميزان حسانتها وأسكنها الجنة برحمته.. أمين يارب العالمين.