منشورات ورسائل تملأ الفضاء الأزرق، تدعو الناس للتواكل وتغييب السعي وإنكار أهمية العمل، والتعويل على المعجزات والخوارق، والحديث الذي ينكره العقل والقلب معاً، الذي يمتزج بالخرافة والدجل واستغلال النصوص المقدسة، في الترويج لعبارات ساذجة، وقد صادفني منذ عدة أيام منشور عن فضل قراءة بعض سور القرآن الكريم، وقد تعجبت كثيراً من هول ما رأيت، وسطحية استغلال كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، في نشر الخرافة والدجل بين الناس.
وبحسب المنشور الذى أتحدث عنه، فإن أردت شراء منزل، فلا تكلف نفسك عناء العمل، والسعى خلف الرزق لجمع المال الذى يمنحك فرصة بناء المنزل، لكن كل ما عليك هو قراءة سورة الحديد كل يوم ثلاثاء، وستحصل على المنزل الذى تريد، وهذا ربط عجيب وغريب لا يمكن لعاقل أن يصدقه، فمع التسليم أن قراءة القرآن وكافة النصوص المقدسة أمر محمود، ويدعو له الدين ويحض عليه، لكن لا يجب أن نتاجر بتلك النصوص في نشر الخرافة، وإشاعة الاتكالية والخمول بين الناس، وتفسير المقدسات من منظور يخدم مصالحنا الضيقة، ومطالبنا الدنيوية الرخيصة، فالمقدس لا يجب أن توظفيه لخدمة مصلحة، أو استغلاله في فوضى العبث الفيس بوكي من أجل اللايك والشير!
القرآن الكريم منهج متكامل، جاء لهداية البشر إلى طريق الحق، وحملت نصوصه إعجاز لغوى خاص، لم يعرفه العرب من قبل وهم أهل فصاحة وبلاغة، لذلك لا يمكن أن ننظر إلى هذا النص الرباني الإعجازي بصورة تخالف العقل والمنطق، فقد قال الله تعالى في كتابه المحكم " مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ"، وقد قال أيضا:" فأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ"، فلو كان الأمر إعجازى فقط لصنع الله السفينة، وقدمها لنوح، لكنه كلفه بالعمل والسعي، وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها"، فكل ما سبق يحض على العمل والسعي والاجتهاد والأخذ بالأسباب، وليس مجرد أن يقرأ سورة النمل حتى يعالج الأرق، أو سورة الذاريات لسداد الديون، أو سورة الانفطار للهدوء وحفظ الأسرار!
القرآن جاء لنفهم ونتدبر، ونعبد الله على الوجه الأمثل، فهذه فلسفته ورسالته، لا أن نستخدمه في الدجل ونشر الخرافة، فلو أن مريضاً يتألم، وأخبره أحدهم أن علاجه في قراءة السورة الفلانية في اليوم الفلاني، دون الذهاب للطبيب أو الأخذ بالأسباب، ثم ازداد مرض هذا الشخص، ولم يلمس تحسناً، فكيف ينظر بعد ذلك إلى النص المقدس؟ الذي تعامل معه بثقافة أشبه بـ "قراطيس" العطارة التي تشفى الناس من جميع الأمراض، لذلك يجب أن نتوقف عن النشر الجاهل لكلمات وعبارات تتعارض مع جوهر الدين ومبادئ العقيدة.