ونحن بصدد الاحتفال بـ"يوم الشهيد"، لا يمكن أن ننسى هؤلاء الأبطال الباقون في ضمير وذاكرة الوطن، الذين قدموا أرواحهم فداءً لهذا الوطن، من أجل أن نعيش جميعا في سلام وأمان.
"لولاكم ما كنا"، فنعيش الآن في سلام وأمان، ونرى بأعيننا عجلة الإنتاج تدور، والمشروعات والإنجازات تنطلق، فلولا دماؤكم الذكية، ما كنا هنا.
تحية لأبطالنا الشهداء الأبرار الذين قدموا أرواحهم وهم يدافعون عن أسوار الوطن، من عدو خارجي يحاول يتربص بهم، تحية لشهدائنا ممن سقطوا في حروبًا دفاعا عن الأرض والعرب، تحية لأبطالنا في الداخل ممن يتصدون للإرهاب والجريمة، فمن منا يتحمل القلق والخوف كل لحظة على ابن أو زوج أو أخ يعمل فى مواقع شرطية، من منا يودع ابنه كل صباح ولا يدرى سيراه مرة أخرى أم ينتظره فى جنازة عسكرية، من منا يستطيع أن ينام أو يأكل أو يشرب أو يمارس حياته بشكل طبيعى وابنه يداهم وكرًا إجراميًا، أو يقف فى كمين تحاصره يواجه الارهاب، من منا يتحمل القلق المميت كل لحظة ويُخطف قلبه من صوت الهاتف ربما كان يحمل خبرًا سيئا عن الابن الغائب، إذا كنا ـ أنا وأنت ـ لا نتحمل ذلك فلنعطي التحية لهؤلاء الأبطال.
وفي حقيقة الأمر، فإن "الارهاب" مصطلح سمعته لأول مرة فى حياتى في تسعينات القرن الماضي، كنت وقتها طالبا بالصف الأول الابتدائي، سعيداً بملابسي الجديدة وحقيبتي المصنوعة من القماش، استقيظت كعادتي مبكراً لأشارك في طابور الصباح..يومها أسرعت نحو والدي لكي أحصل على المصروف، لكنني وجدته هذه المرة مشغولاً بالحديث مع "خفير" نقطة الشرطة، الذى أعطاه ورقة صغيرة، قائلاً له "دي إشارة من المركز مش عارف مكتوب فيها إيه خلي حد يقراها لك يا حاج"، وحاول والدي الاستعانة بي، لكني كنت لازلت أدرس حروف الهجاء بالمدرسة، فاستعان بابن عمي الطالب الجامعى، فحضر ونظر فى الورقة كثيراً، ثم نطق بحروف متعلثمة تخرج من بين شفتيه بصعوبة: "البقاء لله يا عم ابن اخوك استشهد فى "طما".
والدي توقف عن الكلام دقائق صامتاً فى ذهول، ثم صاح فى ابن عمي "بتقول ايه يا ابن الـ.."، فكررها له، "ابن اخوك مات يا عم..والله مكتوب كدا"، جرى والدي نحو المركز، وعدت إلى المنزل وخلعت ملابس المدرسة، بكيت كثيراً على ابن عمي الذى يكبرني بسنوات كثيرة، فقد كان يعود أخر النهار كل يوم بـ"لبسه الميرى" ولم أكن ساعتها أعرف طبيعة عمله بسبب صغر سني.
دموعي لا تتوقف والنساء يتشحن بالملابس السوداء وأصوات الصراخ يهتك الصمت الذى خيم على قريتنا "شطورة" شمال سوهاج، هكذا كان المشهد حول منزلنا، وبعد سويعات، يمتلأ الشارع بسيارات الشرطة، أصعد برفقة أطفال الجيران أعلى المنازل نراقب بأعيننا سيارات الشرطة المحملة بالورود والموسيقى العسكرية، وتحضر زوجة "الشهيد" لا تكاد تسطيع الوقوف على قدميها بسبب صدمتها، ثم نستقبل نعش الشهيد، نزفه إلى الجنة، وأصوات القرآن الكريم تعلو تخالط دعوات المخلصين بالرحمة والغفران للشهيد.
بعد ثلاثة ايام ..انتهى العزاء، عرفت أن ابن عمى "كباري" اسمه فى الحكومة "أبو الفضل" كان يعمل شرطياً بـ"طما" واستشهد فى أحداث الارهاب الشهيرة بالصعيد، ولم أكن ساعتها أدرك معنى كلمة "الارهاب" لكنه إرتبط في عقلي منذ نعومة أظافري باغتيال أقرب شخص إلى قلبى، فكرهت الارهاب، وكبرت وكبر معى هذا "الكٌره " طالما شاهدت بنات "المرحوم" الأربعة دون أب، وطالما شاهدت صوره داخل منازلنا، كرهت الإرهاب كلما سقط شهيد جديد على تراب هذا الوطن، فتحية لشهدائنا الأبرار.