لا شك أن مسلسل (هجمة مرتدة) حفر اسمه فى سجل الدراما الوطنية المصرية بحروف من نور، وسيرسخ بالطبع فى عقول المصريين وضمائرهم، ويبقى فى الذاكرة المصرية الحية من خلال أحداثه الساخنة عبر حلقاته التى رصدت العام الماضى محاولات القوى العظمى بالتنسيق مع عملاء الداخل والتسلل داخل صفوف المتظاهرين فى 25 يناير وتحفيزيهم على القيام بعمليات تخريبية من شأنها أن تسقط الدولة المصرية فى (المستنقع)، وذلك بحسب تصورات حروب الجيل الرابع، ودحضت تلك الأحداث الساخنة بذكاء وحنكة رجال المخابرات المصرية كل نظريات (برنارد لويس) لتفتيت العالم العربى والإسلامى من باكستان إلى المغرب، والذى وضع مخططا لتقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات، فضلا تفكيك الوحدة الدستورية لجميع الدول العربية والإسلامية، وتفتت كل منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية.
لكنه فى جزئه الثانى الذى جاء بعنوان (العائدون) وهو المسلسل الذى أعتبره ليس من أهم أعمال موسم رمضان فحسب بل فى تاريخ الدراما المصرية الحديثة، ففى جزئه الثانى يبحر نحو دفة أخرى من الكشف عن المتآمرين عبر أجهزة استخبارات دولية ومن دول قريبة منا تحاول النيل من الدولة المصرية وباقى أقطار العالم العربى، وذلك بدعمهم لتنظيم (داعش) اللعين كى يصبح شوكة فى ظهر المنطقة بكاملها، فالعمل يتناول فكرة تكوين جماعة (داعش) الإرهابية وحلمهم فى دولة الخلافة وكيف يرمون شباكهم على الشباب العربى فى كل البلدان لاستقطابهم لإدخالهم مستنقع الدم والإرهاب، ويناقش أيضا كيف نجحت الأجهزة الاستخباراتية المصرية فى التواجد بين تلك الجماعة وشق صفوفها وانغماس عناصر مصرية لنقل تحركاتهم وإحباط محاولاتهم، كما تمت السيطرة على معاونيهم فى دول العالم خاصة شرق أوروبا والذين يعملون معهم مقابل الأموال فقط.
المسلسل عبارة عن قضية أمنية بالدرجة الأولى أحداثها وقعت فى الفترة من (2018 إلى 2020)، وشكلت خطر كان يتهدد العالم كافة ولم يكن أحد يتخيله أو يشاهده، وفى مصر التفتت إليه القيادة السياسية التى كلفت الأجهزة الأمنية للتصدى لعناصر التنظيمات الإرهابية خارج وداخل المنطقة العربية، ورصد الممارسات الذى كان يضغط بها تنظيم (داعش) الإرهابى على المنضمين لصفوفه، وعلى رأسها نوع من الضغط النفسى فى محاولة لفرض السيطرة الفكرية عليهم وتحريكهم حسبما تريد أجهزة المخابرات الغربية التى تعمل لحساب دول فى المنطقة ترى فى (داعش) فزاعة لتخويف الناس فى بلادنا.
أجمل ما فى مسلسل (العائدون) أنه يظهر كفاء المخابرات المصرية فى تتبع تغيير الاستراتيجيات الأمنية لمحاصرة (داعش) قبل دخولهم مصر، ومحاربة الإرهاب الدولى نيابة عن العالم بأثره، وذلك من خلال خطط استباقية تنجح فى الحد من ممارسات (داعش) فى ظل أن هذا التنظيم يقوم بتنفيذ عمليات تفجير وقتل واستهداف فى الدول التى يسيطرون عليها، أو توسيع سطوتهم من خلال تسلل تلك العناصر إلى دول أخرى وتكون (خلايا نائمة)، ومن ثم كان للمخابرات المصرية اليد الطولى فى حماية حدود أمننا القومى، حيث تبدأ من أى مكان يمكن أن يشكل تهديد، ولعل الحلقات الأولى من المسلسل قد تحدثت تفصيليا عن مخطط أحد قادة تنظيم داعش فى تنفيذ عملية تستهدف مبنى دار القضاء العالى فى مصر.
المخطط الإرهابى لقادة داعش يوضح لنا فى حلقات (العائدون) الأولى أنه يرغب فى توسيع المساحات التى يسيطر عليها التنظيم فى الوطن العربى، لاسيما وأن التنظيم كون 80 ألف عنصرا، جرى تدريبهم على القتال وحروب العصابات، ويسعون لانتشارهم فى البلاد وعودتهم فى أوطانهم مجددا، وتكوين خلايا نائمة، وتنفيذ عدد من العمليات الإرهابية فى كافة الأقطار العربية وعلى رأسها مصر - الجائزة الكبرى - بحسب المخططات الدولية، وهو ما دفع رجال المخابرات المصرية إلى الصراع مع الزمن من خلال أحداث اتسمت بسرعة حركة فى التقاط خيوط تبدو متشابكة مع عناصر تعيش فى إحدى الدول التى تبث منها القنوات التابعة لجماعة الإخوان الإرهابية، وهو ما يعكس ازدواجية هدفها فى الصراع على المال ليس ألا.
ولعل الضابط (إسماعيل أو خالد / هانى رمزي) قد أظهر كفاءة رجل المخابرات المصرى وبطولته النادرة فى مسلسل (العائدون)، حين لعب بحرفية عالية دور صاحب وكالة إعلانية ضخمة، تبحث عن الكوادر الشبابية وضمهم له، إذ اقترب من (علاء / ميدو عادل)، والذى يعمل مونتير ومخرج فى قناة إخوانية، بشأن ترشيحه للأجهزة الأمنية وزرعه وسط تنظيم (داعش)، إذ زعم إنه يطمح للتعاون معه فى إخراج إعلانٍ تليفزيونى ضخم، وأبرز (هانى رمزي) حجم الفساد الموجود بين مسئولى القنوات الإخوانية، فى سبيل ادعائهم الدائم بأنهم أصحاب قضية، إذ كشف بعض الحقائق عنهم نتيجة تسلله وسطهم، قائلا فى حديثه لـ(ميدو عادل): (صاحب القناة اللى أنت شغال معاه ومش بيقبضك بقاله 3 شهور اشترى بيت بـ4 ملايين دولار، والمذيع عزت لسه مغير عربيته، وبيغيرها كل سنة، وتميمى بيسافر كل شوية ويجيب فلوس للمحطة تمويل من برة).
ناهيك عن دوره البارز بذكاء نادر فى السيطرة على (صفوان) الذراع اليمنى لـ (كمال أقطاي) رئيس أحد أجهزة المخابرات العاملة فى المنطقة وتسعى لدعم (داعش) بالمال والسلاح والضعط عليه للسفر لمصر، فضلا عن التمهيد للضابط (عمر/ أمير كرارة) وزميلته (نادين/ أمينة خليل) للقاء (علاء) وتدريبه قبل زرعة فى قلب (داعش)، هنا تبرز كفاءة رجال المخابرات المصرية (الصقور المصرية) المحلقة فى سماء ملبدة بالغيوم، وبيان قدراتها الخاصة فى الحصول على المعلومات من مصادرها والتفاعل مع الأحداث وبناء خطط من شأنها أن تجهض محاولات التنظيم البائس على الطرف الآخر من اللعبة القذرة، من خلال دراما واعية دراما ترتبط بأحداث ومتغيرات المنطقة العربية، وتناول ما يمكن وصفه بمصطلح (إعادة تدوير الإرهاب)، حيث أشارت أحداث المسلسل إلى كواليس تدور فى دول أخرى، وما أضفى نوعا من المصداقية أكثر تواجد ممثلون من جنسيات عربية، خلاف الممثلين المصريين، ينصهرون معا فى قضية محاربة الإرهاب بعيدا عن الشكل التقليدى وبطريقة مثيرة.
غاص المسلسل باستفاضة فى توصيف (الإرهاب)، وكيف وضُع المواطن العربى والمسلم فى خانة الدفاع عن النفس دائما، مشيرا إلى أن المتطرف دائما يتولى أمره ما يسمى بـ(المسئول الشرعي) والإرهابى يحارب بالوكالة ويموت بالوكالة دون مقابل، مؤكدا أن الإرهاب له صناع و(سماسرة)، ومن هنا تأتى كل تلك الأحداث المشحونة بالمعلومات والحقائق والوثائق التى حظى بها مسلسل (العائدون)، وتتضح لنا الغاية والأهداف الخفية جراء تلك المؤامرة الكبرى على مصر، فضلا عن كشف اللثام عن هذا العالم الخفى المليء بالغموض والأسرار، وربط خيوط المؤامرة، ويبدو لافتا أيضا تناول (العائدون) للجانب الاجتماعى فى حياة رجل المخابرات الذى يعيش حياة عادية مثله مثل كل مواطن يحيا على تراب هذا الوطن المقدس، حتى يمكننا القول براحة تامة أن تلك الملحمة الوطنية استطاعت أن تسطر بحروف من نور قصة أسطورة (الصقر) الذى تتخذ منه المخابرات العامة العامة المصرية شعارا لها.
ويبدو واضحا جليا تلك الحرفية العالية فى السيناريو ورشاقة أسلوبه، بالإضافة إلى جرعة التشويق العالية مع الحلقات، وجودة التصوير والمونتاج والصوت، والذى قاد الملحمة الدرامية له المخرج الكبير أحمد نادر جلال، مع أداء رائع لكل من (أمير كرارة، أمينة خليل، محمود عبد المغنى، واللبنانى القدير فادى إبراهيم الذى جسد دور (كمال أقطاي) رجل المخابرات العتيق، وجنيد زين الدين، الذى لعب دور (نزار) المقرب من زعيم التنظيم (سياف) الذى أدى دوره بجدارة السورى (أحمد الأحمد)، فضلا عن رشا بلال، وميدو عادل، وإسلام جمال، ومايا طلام، ونبيل عيسى) فى مباراة غاية فى البراعة على مستوى الأداء.
ويظهر المسلسل جانب المقامرة والمغامرة بين المخابرات المصرية وعناصر (داعش)، بعد أن كانت تقارير أجنبية أفادت بأن لدى التنظيم الإرهابى قواعد صارمة ومشددة، فهناك ميثاق المدينة والحسبة، كذلك وضع على المنضمين له ما يسمى بالشرطة الدينية للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويجبر التنظيم -وفق التقارير الأجنبية- المنضمين له بالإمضاء على أوراق للالتزام بالقوانين التى فرضها، والتى من بينها الطاعة وتنفيذ الأوامر بلا جدال والاستشهاد فى سبيل داعش، وكذلك كتابة وصيتهم منذ اليوم الأول للانضمام إلى التنظيم الإرهابى، وهو ما دفع المخابرات المصرية فى أحداث (العائدون) للتصدى لعناصر تنظيم (داعش) الإرهابى، حيث نفذ العاملون بالمخابرات من ضباط وخبراء اتصال وعملاء سريين عمليات تهدف إلى حماية الوطن والقضاء على الإرهاب.
(العائدون) سد فراغا كان شاغرا لسنوات طويلة عاش الجمهور فى حالة من التعطش لأعمال الجاسوسية، خاصة تلك الأعمال المأخوذة من ملفات المخابرات العامة، ذلك الجهاز العظيم الذى يحمى رجاله مصر والمصريين من الكثير من المؤامرات التى تحاك ضده، وربما قبل (هجمة مرتدة) لم يكن المواطن الذى يعيش فى أمان يدرك حجم الأخطار التى تتعرض لها حياة هؤلاء الرجال طوال الوقت، ليس فقط وحدهم بل ذويهم وأحبائهم وأقرب الناس إليهم، هؤلاء الرجال ممن يسطرون بطولات قد لا يعرف عنها العامة شيئا، وعلى غرار كبار الأعمال الدرامية التى سبق وقدمت للجمهور يأتى مسلسل (هجمة مرتدة) فى موسم رمضان 2021، ليروى عطش الجمهور فى مشاهدة تلك الأعمال التى طال انتظارها، فى ظل التطور التكنولوجى وأجهزة الترقب بزمن السوشيال ميديا ويمثل أنشودة فى حب الوطن.
ولأن الأعمال المأخوذة من ملفات المخابرات فى الدراما التليفزيونية قليلة، لكنها صاحبة تأثير كبير فى وجداننا جميعا، وتظل راسخة فى الذاكرة، مثل (رأفت الهجان، دموع فى عيون وقحة، الحفار، العميل 1001، عابد كرمان، حرب الجواسيس، الزيبق) وغيرها، لأنها تحدث حالة من الوعى الجماهيرى، فالكل يلتف حولها، كونها تناقش قضية مرتبطة ببلدنا، خاصة حينما تكون مكتوبة بسلاسة درامية وغنية فى أحداثها، تماما كما حدث فى مسلسل (العائدون)، الذى صنع ليكون عملا تاريخيا وتوثيقيا بامتياز باعتباره مأخوذا من ملفات حديثة للمخابرات العامة، ويعكس العديد من الوقائع والحقائق، فى إطار درامى يعتمد التشويق والإثارة من ناحية، ومن ناحية أخرى يكشف حجم المؤامرة الكبرى على مصر.
ويحسب لصناع المسلسل ذكاء اختيار فريق العمل، ذلك الفريق الذى يجتمع حوله الكثير من الشباب وهى الفئة المستهدفة استكمالا لمعركة الوعى، ذلك الشباب الذى يحتاج إلى معرفة حقيقته وأن يتسلح بالفكر والوعى لحماية مصر وحماية نفسه من الوقوع فريسة فى شباك أعداء الوطن، ويعتبر (هجمة مرتدة) وجزئه الثانى (العائدون) أول مسلسل جاسوسية يناقش عملية تمت فى القرن الواحد وعشرين، كما أنه يناقش ويرصد ملفات المخابرات فى ظل اختلاف آليات التعقب والمراقبة والمراسلات والتجنيد عما شاهدنا فى أعمال سابقة لها شعبية كبيرة، ولقد استمتعنا كمشاهدين بأداء بالغ التفوق بقدرة واحترفية جهاز المخابرات المصرية (عين الصقر الساهرة على أمن الوطن والمواطن)، من خلال أساليب التدريب والتخفى وتعقب الإرهابين على كامل خريط العالم.
تحية تقدير واحترام لـ(الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية) فى تصديها الواعى بإنتاج أعمال تركز على كفاءة المخابرات المصرية من ناحية، ومن ناحية أخرى تصديها الشجاع فى (معركة الوعي) كى يرى ويسمع الشباب كيف أن هناك رجال عظماء يسهرون على أمن هذا الوطن.