من يفوز فى حرب الصور، يكسب الحرب، بصرف النظر عن الحقيقة، تبدو هذه الحقيقة واضحة فى الحرب الدائرة على أرض أوكرانيا، وأطرافها روسيا وأوكرانيا، وأوروبا والولايات المتحدة، وهو صراع يحمل بعض تفاصيل الحرب الباردة، بين معسكر أوروبا الشرقى بقيادة السوفييت، والمعسكر الغربى بقيادة الولايات المتحدة، ما يؤكد أنها حرب نفوذ اتخذت غطاءً أيديولوجيا فى السابق، وتستمر اليوم من دون غطاء الأيديولوجيا.
الحرب فى أوكرانيا حرب صور، حتى قبل سباق الصور والفيديوهات حول مذبحة بوتشا، والتى راح ضحيتها مدنيون، تتهم أوكرانيا والغرب روسيا، بينما تتهم موسكو النازيين الجدد، الثابت الوحيد هو أن هناك ضحايا، عشرات الجثث بملابس مدنية وصور وفيديوهات عن مذبحة ومقابر جماعية جرت فى بوتشا.
حرب الصور الدائرة، تذكرنا أننا فى عصر يحتمل الاختلاف حول نفس الصورة، وتبقى الحقيقة محجوبة خلف توظيف كل طرف لهذا كله، فالجبهة ليست فقط جبهة سلاح، لكنها تتضمن بجانب الطائرات والصواريخ والدبابات والمسيرات، مئات القنوات والفضائيات ومنصات النشر وآلاف الحسابات على فيس بوك وتويتر، ليست حسابات عادية لكنها تستهدف عقول وقلوب الحسابات العادية، لصناعة وجهة نظر. حيث تصنع هذه الصور والتعليقات حالة يختلط فيها الشك بالمعلومات.
الجديد أن حرب الصور نجحت بالفعل على مدى أكثر من عقد، فى مناطق كثيرة، وكان الشرق الأوسط مجالا لهذه السباقات، وبصرف النظر عن الرأى مع أو ضد، فقد لعبت الدعاية المصنوعة دورا ووظفت الصور والفيديوهات لصناعة حالة سياسية، ظاهرها الحرية، وباطنها إعادة صياغة النفوذ، لكن الحرب اليوم سبقتها حرب دعائية واتهامات متبادلة، بين روسيا والولايات المتحدة والغرب، لكن روسيا التقطت الفكرة، واستعدت بأدوات حرب دعائية مجالاتها الفضائيات وأيضا مواقع التواصل الاجتماعى، وبالطبع فقد أدرك الروس أن الاتحاد السوفيتى لم يسقط بالسلاح لكنه سقط بالدعاية وصناعة أحلام الترف والثراء والمتعة، وحسب مقولة المنظر الاشتراكى الفرنسى البارز ريجيس دوبريه «كانت هناك قوة فى فيديو موسيقى الروك والأفلام، وبنطلونات الجينز، والوجبات السريعة، وشبكات الأخبار ومحطات التليفزيون، أكبر من الجيش الأحمر كله»، حيث الصراعات الإعلامية والتدخلات المعلوماتية والتضليل ليست من نسج الخيال، لكنها واقع يفرضه تطور عالم عصر المعلومات، فى واقع أكثر تعقيدا.
كانت روسيا طرفا فى الصراع بسوريا والعراق، ومن المؤكد لكون موسكو طرفا أنها عرفت أن الحرب على أراضى سوريا والعراق وليبيا لم تكن من أجل الحرية، ولا حماية الشعب من التسلط والسلاح الكيماوى، لكنها حرب نفوذ بالوكالة، تديرها الدول الكبرى وأجهزة استخباراتها، ويشارك فيها جواسيس وميليشيات، وممثلون ومخرجون، وفى كثير من الأحيان تسقط الحواجز بين الواقع والتمثيل، تنظيمات مسلحة يلعب كل منها دورا فى فيلم طويل، ومنصات دعاية وإعلام تمارس الضخ المستمر لخدمة وجهة نظر مموليها وشركائها، ويتداخل الاستخبارى بالدعائى، ولكل طرف منصاته وأدواته وميليشياته.
وبالتالى يبدو أن روسيا استعدت بالسعى لامتلاك ماكينات دعاية، وتوظيف أدوات التواصل، وحتى لو توقف فيس بوك أو تويتر فى روسيا، فلم تغادر أدوات الحرب الروسية هذه المواقع، لعلمها أنها مهمة فى إدارة حرب لا تدور بالسلاح فقط، لكنها تنتهى لصالح من يوظف الصورة، وهى حرب تدور فى أوروبا، لأول مرة منذ عقود، وليست فى العالم الثالث، ثم إن أطرافها يحرص كل منهم على كسب القلوب والعقول، والتشويش على الطرف الآخر، لهذا ترد روسيا على اتهامات أمريكية، بالتذكير بأن الولايات المتحدة غزت العراق وقتلت الملايين وشردت المدنيين، ولم تحقق ديمقراطية، ولا حرية ولا رفاهية، وترد أمريكا والغرب بأن موسكو تقتل المدنيين وترتكب جرائم حرب، وترد موسكو بصور ضحايا أبرياء فى كل مكان.
وأيا كانت نتائج الحرب فى أوكرانيا، فإنها تمهد لعصر تدور فيه الحرب على الهواء، بالسلاح والصور.