أصابتني الحسرة على موت وفقد صديقي وأخي الكاتب الصحفي الموهوب "عاطف حزين"، خاصة أنني شعرت أني لم أوفيه حقه حتى تمنيت أن يعود إلى هذه الحياة.. أعلم أني لا أستطيع التحدث إليك مرة أخرى، وأني لا أستطيع رؤيتك إلا في الصور التي خلدت ذكرياتنا سويا، لكني أتمني أن أضمك إلى صدري والصور لن تكفي، الصورة يا أخي العزيز لن تجعلني أشم رائحتك العطرة أو أشعر بيديك يحيطان بي، وحدها الأحلام الآن هى القادرة على أن تمنحني هذه المشاعر والأحاسيس، فلا تبخل على بزيارتك لي في حلمي فأنا أشتاق إليك حد السماء يا من فرق بيننا تراب القبر.
كان أمر موتك صدمة لي فأنت مازلت شابا بل في ريعان شبابك، لكنك للأسف لم تتمتع بصحة جيدة وببنية جسدية كما كان يحسدك عليها الكثيرين، لكنك بموتك علمتني أن الموت يأتي دون استئذان كما أنه يخطف الصالحون منا، فشكرا لك صديقي حتى بموتك تعلمت منك الكثير، وقليل من الرجال يصبح رحيلهم بقاء وخلودا، وتبقى الأقلام النبيلة حية لا تموت أبدا لأنها تنحاز لبسطاء هذا الوطن، ربما فقط يجف منها المداد، ومن هذه الأقلام، وهؤلاء الرجال الباقون في سجل الصحافة والخلود، عاشق الصحافة وأستاذ التحقيق الصحفي الراحل النبيل (عطف حزين) الذي أخلص لوطنه حتى النهاية.
لقد كان (حزين) مدرسة صحفية وأكاديمية تسير على قدمين، ترك بصمات متميزة في الكثير من المنابر الصحفية المصرية والعربية، وتتلمذ على يديه أعداد كبيرة من الصحفيين والصحفيات من أجيال متعاقبة، كان (عاطف) بلا شك هو أفضل رهانات (إبراهيم سعدة وأسامة سرايا) الصحفية في تطوير وتحديث قسم التحقيقات الصحفية في (أخبار اليوم، والأهرام العربي)، فضلا عن أن عرفت الصحافة العربية (الشرق الأوسط) عبر إصداراتها (المسلمون والصباحية وعالم الرياضة) في (عاطف حزين) أنه أول صحفي دارس متمكن، يخطط للفكرة ويتابعها، ويصوغها، ثم يقوم بإخراجها بنفسه، إنه الصحفي الذي يبدأ رحلة الموضوع الصحفي من الألف إلى الياء.
كان (عاطف حزين) مدرسة صحفية متحركة، مستقلة بذاتها، لا تتبع تيارا أو فريقا، لكنها تتبع نظرية واحدة، هى احترام الإنسان لنفسه ولمهنته، كان يهمه في المقام الأول المواطن، صاحب الحق، ولم يكن يضع في حساباته غضب مسئول أو صاحب جاه أو منصب من قضية أثارها في تحقيقاته وحوارته، لم يتبن (حزين) نظريات أو يدخل في متاهات دوامة القوالب السياسية، وبحكم أنه شخصية عاطفية حساسة للغاية تبنى مدرسة خدمة القارئ، الذي يعتبر المالك الحقيقي لأي مطبوعة يعمل في كنفها.
ولم يكن اختيارالصديق الصدوق (عاطف حزين)، ليقوم بمهمته من فراغ، فهو تاريخ طويل من التفرد والتميز، وقد ولد في مدينة بور فؤاد، وتخرج في كلية التجارة، ومنذ تخرجه وهب حياته لمهنة البحث عن المتاعب، وتمرس بمهاراتها المتنوعة، وصال وجال في دروبها الوعرة، بدءا من (أخبار اليوم) التي عمل بها محررا في قسم التحقيقات ولديه ميل شديد للفن، قبل أن يكمل دراسته الأكاديمية، ومن هناك انطلق في تعقب الأخبار والانفراد بكشف النقاب عن أخطر الأسرار، ونشرها في صحيفة (أخبار اليوم) تحت قيادة الراحل الكبير (إبراهيم سعدة)، وهى التي شهدت بدايات نبوغه كمحقق صحفي من طراز نادر وجسور ومقتحم، وصاحب خبطات مدوية.
في عام 1997 انتقل (حزين) إلى مجلة (الأهرام العربي) ليكمل مشواره مع التحقيق الصحفي الذي كان يعشقه ويجيد كتابته بقدرة واقتدار؛ حيث أسس في الأهرام مدرسة التحقيق الصحفي فتتلمذ على يديه في هذه المدرسة عدد كبير من الصحفيين الذين أصبحوا نجوما ساطعة في دنيا الصحافة داخل وخارج (الأهرام)، وخلال رحلته المهنية بـ (الأهرام) لم يكتف بأن يكون صانعا للنجوم، ولم يتخل عن الفن الصحفي الذي عشقه، فقد أجرى العديد من الخبطات الصحفية، كان من أبرزها سلسلة تحقيقات نادرة عن حرب العراق نشرت على صفحات (الأهرام العربي) لمدة أسابيع متوالية جسد خلالها اعتداءات المحتل الأمريكي في هذه المعارك القاسية، ونقلها للقارئ صورة حية لما يحدث على خط النار.
وخلال رئاسته لقسم التحقيقات بـ (الأهرام العربي) وتوليه سكرتارية التحرير التنفيذية، تعلم منه تلاميذه كيف يقدمون إلى الرأي العام أعلى مستوى من التحقيق الصحفي، الذي لا تنقصه جرأة، ولا تقيده خشية، ولا يستهدف غير المعالجة الأمينة لحقائق الأمور بغير تهوين ولا تهويل، كانت مدرسته الصحفية هى مدرسة الأب ذو الهيبة والوالد الحنون، مدرسة الأستاذ الذي لا يبخل بعلمه على تلامذته، مدرسة العاشق للمهنة، المتفاني لها، المقيم بصفة دائمة في محرابها، تعلم من يعمل معه كيف يكتب قصة صحفية، كيف يتحرى قضية؟، كيف يصوغ جملة؟، كيف يصنع عنوانا جذابا؟، كيف يبيع موضوعا للقارئ من خلال مقدمة صحفية ذكية، كيف يختار الحرف مثلما يختار الصائغ قطعة الألماس النادرة ليرصع بها أسورة لحبيبته، ربما بحكم أنه أنجب 4 بنات جميلات، وإضافة إلى ذلك كان يعرف بحسه الصحفي النادر كيف يختار الصورة الصحفية الإنسانية المعبرة، رافعا شعار صورة واحدة معبرة تغني عن مليون كلمة.
كما تعلم من كان يعمل مع (عاطف حزين) المعروف بالأدب الجم: كيف يخرج التحقيق الصحفي، بحيث يبرز فن الإخراج الصحفي أهم عناصر الموضوع، ويجعل القراءة متعة، وليست رحلة شاقة بلا عودة للقارئ، ولم يقتصر عطاء (حزين) في الأهرام العربي على تطوير قسم التحقيقات الصحفية، ولكنه أيضا كان أول من أنشأ مدرسة في النقد الرياضي - بحكم عشقه للنادي الإسماعيلي - والنقد الفني بحكم عشقه للغناء والسينما والدراما التليفزيونية، كما كان أول من كتب صفحة نقدية بعنوان (نقطة حبر) تناول فيها مختلف الشخصيات الفنية والرياضية عن كواليس (البلاتوهات) فقد كان قلمه نافذا في أرض النقد الرصين.
الدخول إلى مهنة الصحافة أمر سهل جدا، لكن أن تصبح صحفيا بارزا في هذه المهنة فهذه هى الصعوبة بعينها، لأن الصحفيين كثر، ومع الوقت يبدؤون في السقوط بفخ التزييف وقلب الحقائق، وبهذا تفقد الصحافة مصداقيتها، ويصبح الصحفي مجرد شخص كذاب مدعي طوال الوقت، ولهذا فإن الناس في الآونة الأخيرة بدأوا لا يأخذون كلام الصحافة بشكل عام على محمل جد، وهذه ليست مشكلة المهنة بقدر ما هى مشكلة كل شخص ينتمي لها ولا يراعي الصدق والحقيقة، لذلك نقول إنه من السهل جدا أن تصبح صحفيا، لكن من الصعب أن تصبح صحفيا بارزا مرموقا كعاطف حزين الصحفي الجسور بمداد كلمات صادقة ومعبرة عن قارئ يتعطش دوما للحقيقة مهما كانت مرارتها.
آمن (عاطف حزين) منذ أن أمسك بقلمه أنه بالتأكيد أهم فرد في مهنة الصحافة هو الصحفي، فهو أساس هذا العمل، وهذا ليس نابع من فراغ، وإنما من الدور الذي يقوم به، والذي يضعه كما ذكرنا في مكانة كبيرة في المجتمع، فهو ليس مجرد كاتب يكتب الأخبار والتحقيقات وإنما كذلك أداة توجيه كبرى للرأي العام، والحقيقة أن الدور الأبرز للصحفي (عاطف حزين) بشكل عام والذي يعد من أهم الأدوار التي يقوم بها الصحفي خلال عمله في مهنة الصحافة هو رصد الأحداث حوله وتحليلها، والتي قد يراها البعض بعيونهم أحدث طبيعية، لكنه كصحفي بارع وحده قادر على استخراج الأهمية منها ومعرفة ما ينتظره الناس منها، فمثلا، عند حدوث حالة انهيار في خط سير القطار ونشوب التصادمات والحوادث، فإن دور الصحفي لا يقتصر على نقل خبر كهذا فقط، وإنما رصد الظاهرة بأكملها ونقلها إلى الرأي العام، كما حدث في سلسلة تحقيقاته حول حوادث القطارات في مصر.
وكأنه مثلا يشير إلى نقاط الضعف ويبرز المتسببين بها، وكل هذا يحدث لأنه في البداية رصد الظاهرة أو سلسلة الحوادث بحرص واقتدار، وكشف الحقائق كل ما يظهر على الساحة لا يمكن أن يوصف بالحقيقة، لأن الحقيقة تكون أعمق وأعظم من ذلك بكثير، وبالطبع لكل شخص هدفه الخاص من إخفاء الحقائق، فهناك المذنب الذي لا يريد فضح نفسه، وهناك المسئول الذي لا يريد قلب الرأي العام، لكن مهنة الصحافة، والصحفي بشكل خاص مثل (حزين) لا يعيرون كل ذلك اهتماما، وإنما يضعون نصب أعينهم شيئا واحدا فقط وهو كشف الحقيقة للجمهور وتوعيتهم، وبالطبع عندما يحدث ذلك تكتسب الصحافة أهمية كبرى لدى الجمهور.
ولأجل هذا الهدف فقد كان لدى (عاطف حزين) يقين راسخ أن الصحافة لا تصبح في الأساس مجرد أداة نقل، وإنما أيضا أداة كشف وإبراز جهة سيادية إن أردنا التعبير الدقيق، ومن هنا تصبح خدمة الرأي العام الرأي العام هو الشيء الأهم في عملية الصحافة برمتها، سواء كان الأمر يتعلق بتوجيهه أو كشف الحقائق له، وفي النهاية دور الصحفي في مهنة الصحافة يشتمل في المقام الأول على هدف رئيسي هام، وهو خدمة الرأي العام، لكن الحقيقة أن بعض الصحفيين قد يعجزون عن تأدية هذا الدور، أو بمعنى أدق يتخاذلون عنه لقاء خدمة أنفسهم، وهؤلاء ليس عليهم إلا تعلم وفهم المبادئ المتعلقة بالصحافة حتى يصبحوا صحفيين بارزين مؤثرين في المجتمع.
كان (حزين) محيرا في أمر مواهبه المتعددة بحق، فهو الكاتب المبهر في أي حقل مهني يرتاده، إذا كتب في الرياضة يكون منافسا لرموز النقد الرياضي، وفي الفن كان يبدو وكأنه ولد في كواليس الاستديوهات و صاحب العلاقات العميقة بأهل الفن، وكان من أكثر الرائعين بتمكن في مراجعة الموضوعات الصحفية الخاصة بزملائه (الديسك)، ولكن كم كانت المتعة الحقيقية عندما تقرأ له حوارا أو تحقيق صحفيا، وكان ما ينتجه هو موضوع جاهز ليدرس بما يحتويه من أفضل معايير العمل الصحفي المؤثر والهادف في بلاط صاحبة الجلالة.
كانت أحلام الراحل وطموحاته تبدو داخله.. إنها تحتاج مساحة أكبر ليعطي أكثر وأفضل، ولهذا كثرت تنقلاته بين عدد من الموسسات الصحفية فقضي فترة من مشواره الأكبر في (أخبار اليوم)، ثم يذهب ليستكمل رحلة نجاحه بين أحبائه الجدد في (الاهرام) وفيها كانت نهاية المشوار، حيث نال منه المرض اللعين وبعد عودته من رحلة علاجه في ألمانيا ظل فترة حتي بدأ المرض يفترسه وينهشه شيئا فشيئا، ولكنه لم يكن يتألم، ولكنه ظل حالما فبعده لم يعد عاطف حزين هو (عاطف) الذي نعرفه بالهمة والنشاط سوى مجرد جسد تحمل الكثير وأصبح لقائه لا يحمل لي أو غيري سوي الحسرة والألم على إنسان يعيش رحلة عذاب تفوق احتمال البشر.
رحيلك يا عزيزي وصديقي وأخي (عاطف حزين) لا يمكن أن ينهي ابتسامتك عند اللقاء ونصائحك وتشجيعك لي فيما أكتبه سواء في المقالات أو بعض الموضوعات، إنك كنت بمثابة ميزان الصحافة في حياتنا فجزاك الله خيرا عنا وزاد في ميزان حسناتك، لقد كنت ومازلت تمثل لي المصري الأصيل، الذي يدافع عن مصر بكل ما أوتي من قوة، كانت قوتك في قلمك.. تحملت الكثير والكثير من أجل كلمة صادقة تكتبها في حب مصر، كانت تحقيقاتك التي نشرتها (الأخبار والأهرام) تعطي الأمل في مستقبل مشرق.. رحم الله أخي وصديقي الأعز (عاطف حزين).
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة