بدا الخديو إسماعيل فرحا للغاية، بعد وصوله إلى مدينة القسطنطينية عاصمة الدولة العثمانية، فى 15 مايو، مثل هذا اليوم، 1873، وفقا لوزيره ومستشاره، نوبار باشا فى مذكراته، مضيفا: «يمكننى القول إنه كان يشعر بالانتصار» وفى القسطنطينية لم يخذله كرم ورضاء السلطان عنه، ووجد الوالى نفسه يستقبل فى البلاط بفضل عطاياه وسخائه بحفاوة من جانب الصدر الأعظم، ورجل آخر أدى فيما بعد دورا رئيسيا فى سقوط السلطان عبدالعزيز وهو السردار حسين باشا إفنى.
يذكر «نوبار»، أنه وصل إلى القسطنطينية فى المساء قبل وصول «إسماعيل» بساعات، ووسط شعور «إسماعيل» بالانتصار كان أول شىء قام به فى لقائهما، هو وضع خريطة كبيرة لمصر والنوبة والسودان، فيها خطوط ممتدة باللون الأسود، كانت تمثل شبكة كاملة من السكك الحديدية، تمتد من وادى حلفا حتى الخرطوم، ومنها يتفرع خط يصل إلى كردفان، وآخر نحو الجنوب الشرقى بين الغضارف وحدود الحبشة، وآخر أيضا نحو «سنار»، ورابع يصل الخرطوم بمصوع على البحر الأحمر مرورا بكسلا، يضيف «نوبار»: «لم أعد متأكدا ما إذا كان قد تم رسم خط أيضا بين الخرطوم وبربر وسواكن، وقال لى: «ماذا تعتقد؟ إن هذا ما أقترح أن يتم تنفيذه، وبدا على هيئته التأكد التام من أنه سيجد من جانبى الموافقة التامة».
كان «إسماعيل» يحلم بربط كل هذه المناطق بشبكة من السكك الحديدية، معبرا عن نظرة استراتيجية يقول عنها «إلياس الأيوبى» فى الجزء الثانى من مجلده «مصر فى عهد الخديو إسماعيل»: «نظر إلى الميدان الجنوبى بغير العين التى كان جميع أسلافه ينظرون إليه بها، وأدرك فى الحال مالم يدركه جده العظيم والفراعنة الكبار قبله، إنه الميدان الحقيقى الذى يحسن بمصر أن تنتشر فيه جهودها الفاتحة».
وعن حدود الدولة المصرية جنوبا يقول عبدالرحمن الرافعى، فى الجزء الأول من كتابه «عصر إسماعيل»: «الفتوحات المصرية فى عهد إسماعيل وخلاصتها، أن مصر فتحت مديرية فاشودة، وضمت محافظتى مصوع وسواكن نهائيا إلى أملاكها، وفتحت إقليم خط الاستواء ومملكة أونيور، وبسطت حمايتها على مملكة أوغندا، وفتحت إقليم بحر الغزال، ثم سلطنة دارفور، واتسعت أملاك مصر بين الحبشة والبحر الأحمر بفتح «سنهيت» وبلاد البوغوس، وامتدت سلطتها إلى سواحل البحر الأحمر حتى بوغاز «باب المندب»، وضمت محافظتى زيلع وبربرة الواقعتين على خليج عدن، وفتحت سلطنة هرر الواقعة فى الجنوب الشرقى من الحبشة، ودخلت سواحل الصومال الشمالية فى أملاك مصر
رأس جردفون على المحيط الهندى، وبذلك كله اتسعت رقعة الفتوح المصرية، فوصلت جنوبا إلى بحيرة ألبرت، وبحيرة فكتوريا، وشرقا إلى البحر الأحمر وخليج عدن ،وغربا إلى حدود واداى».
هكذا وصلت حدود الدولة المصرية فى امتدادها داخل العمق الأفريقى وحلم «إسماعيل» بربطها بشبكة سكك حديدية، وحين فتح الخريطة أمام «نوبار»، قال له: «ماذا تعتقد؟ إن هذا ما أقترح أن يتم تنفيذه»، ويعلق «نوبار»: «بدا على هيئته التأكد التام من أنه سيجد من جانبى الموافقة التامة»، غير أن «نوبار» يبدى تحامله على إسماعيل فى هذا التفكير فينتقده بعنف، قائلا: «كان كل شىء جميلا لكن ونظرا إلى وضعنا الاقتصادى كانت الخطة برمتها خارج قدرات مواردنا، وفى ظل هذه الظروف الفوضوية والمضحكة لم أنس أن أوافق، لكننى أوضحت له بأنه بعد افتتاح قناة السويس ستفقد مصر بسبب هذا الخط أو هذه الخطوط التى تربط الخرطوم بالبحر الأحمر من خلال مصوع وسواكن تجارة السودان والترانزيت، كما أنها من الناحية السياسية من الممكن أن تشكل بعض الأخطار على السيادة المصرية فى السودان».
يصف «نوبار» حالة «إسماعيل» وهو يستمع إلى هذا الرأى الذى لا يوافقه، قائلا: «كانت تبدو عليه علامات الدهشة الكاملة، واكتفى بأن يقول لى وهو يقوم بطى الخريطة:» «إن منزنجر بك - وهو السويسرى الذى نصبه إسماعيل حاكما على مصوع - كان رأيه مثل رأيك تماما»، ويضيف: «تحدث بشكل عام عن الحبشة وعن موارد وثروات هذه البلاد وفهمت فى النهاية أنه يضع هذه البلاد نصب عينيه»، وبالرغم من أن إسماعيل قال لـ«نوبار» إن رأيه مثل رأى «منزنجر»، إلا أن «نوبار» يتهم «منزنجر» بأنه هو الذى أعطى مثل هذه الفكرة للخديو لأنه وحسب قوله: «كان متزوجا من فتاة حبشية، ومعها بعض الأحقاد التى كانت تحملها ضد ذويها، كما يقال، ويبدو بلا شك أنه من أجل خليلة المستقبل كان إسماعيل قد نصب منزنجر حاكما على مصوع».