صعود كبير بات ملموسا، فيما يتعلق بمفهوم "الدبلوماسية التشاورية"، والتي أصبحت أحد أهم الملامح المهيمنة على التحركات العربية، سواء في العلاقات "البينية"، أو على المستوى الجماعي، تحت مظلة الجامعة العربية، وهو المفهوم الذي لا يبدو جديدا من حيث الممارسة العملية، حيث تندرج اللقاءات الثنائية أو الجماعية، بين مسؤولي الدول، في العديد من المناسبات تحت إطاره، وإنما بات يحمل أبعادا جديدة، عبر تخصيص اجتماعات وزارية عربية، لا تحمل أجندة، وليس لها طابع رسمي، ويتم الإعلان عنها، سواء على هامش الاجتماعات الرسمية أو في الدولة التي ترأس مجلس الجامعة العربية، لمناقشة العديد من القضايا الملحة بشكل نصف سنوى، حيث كان أخرها اجتماع وزراء الخارجية العرب بالكويت في يناير الماضي.
وعلى المستوى الفردي للدول العربية، ربما كان النهج المصري القائم على تجاوز "العرف" الثنائي، والتحول نحو دبلوماسية "الثلاثيات"، سواء عبر القمم الثلاثية التي طالما عقدها الرئيس عبد الفتاح السيسي، مع القادة العرب، في السنوات الماضية، وكذلك على مستوى وزراء الخارجية، بمثابة فرصة لتفعيل "الدبلوماسية التشاورية"، عبر التنسيق بين الدول، في إطار ثلاثي، بهدف التحول نحو توسيع دائرة التوافق، عبر تحركات تتبناها قادة الدول المشاركة، في حشد أطراف أخرى في المعادلة العربية، لتوحيد المواقف فيما يتعلق بالعديد من القضايا الخلافية، في ظل تغييرات كبيرة تشهدها الحالة الدولية في المرحلة الراهنة، تحمل تداعيات كبيرة سوف تؤثر لا محالة على استقرار المنطقة بأسرها.
ولعل النجاح في توسيع دائرة التوافق تجلت في العديد من التجارب التي خاضتها مصر، سواء في المنطقة العربية أو غيرها، منها التقارب الكبير مع العراق والأردن، في إطار تحالف ثلاثي، بات يتمدد ليضم أطراف أخرى، منها الإمارات والبحرين، ناهيك عن الجزائر، والتي تسعى من جانبها لتحقيق أكبر قدر من التوافق قبل انطلاق القمة العربية المقررة على أراضيها في أوائل شهر نوفمبر المقبل، مرورا بالسعودية، وانتهاءً بقطر، والتي زار أميرها تميم بن حمد القاهرة مؤخرا، في إطار عملية التنسيق المستمرة، في العديد من القضايا خلال المرحلة المقبلة، والتي تتعلق بالقضايا الرئيسية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ناهيك عن تداعيات الأزمة الأوكرانية وأزمة الغذاء العالمي، وقضايا الطاقة، وكذلك التغيرات المناخية، في ظل استضافة مصر لقمة المناخ المقبلة في مدينة شرم الشيخ في أواخر نوفمبر المقبل.
إلا أن مفهوم "الدبلوماسية التشاورية" ربما يشهد حالة من التوسع، في المرحلة المقبلة، وتحديدا مع انطلاق القمة العربية المقبلة في الجزائر، بعدما كشف الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، عن مقترح تتداوله الأمانة العامة، مع دولة الجزائر، حول انعقاد قمة تشاورية، على هامش القمة العربية، ليتحول المفهوم إلى إطار أكثر جماعية، متجاوزا فكرة "الثلاثيات" والتي مهدت الطريق نحو إطار أوسع، قد يمتد ليشمل كافة أعضاء "بيت العرب"، لمواجهة العديد من التحديات المشتركة، والاستعداد الجماعي لمجابهة "حزمة" من الأزمات التي ينتظرها العالم، لا تقتصر على الصراعات التقليدية التي طالما عانت منها منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها المنطقة العربية، وإنما تتجاوز في جوهرها النطاق الإقليمي وربما الدولي، عبر الأزمة الأوكرانية الحالية، وإنما تمتد إلى حد تهديد الكوكب، في إطار أزمات مستحدثة في صورة أوبئة، وظاهرة التغيرات المناخية التي قد تأكل الأخضر واليابس.
الحالة "التشاورية" التي صنعتها الدبلوماسية المصرية والعربية، نجحت باقتدار في الآونة الأخيرة، في تحقيق قدر كبير من التوافق بين الدول العربية، عبر نهج يقوم في الأساس على تجاوز الخلافات، لتحقيق المصلحة المشتركة، من خلال الاحتشاد وراء القضايا العربية، والعمل معا على مجابهة الأزمات المتواترة، في ظل إدراك جماعي بأن الأزمات الجديدة لا يمكن لدولة بمفردها أن تحقق اختراقات كبيرة بشأنها دون عمل مشترك مع الشركاء الدوليين والإقليميين، وهو ما تجلى على سبيل المثال في أزمة كورونا، والتي وقف أمامها أعتى الدول نفوذاً وأعظمها اقتصاداً في مجابهتها وحدها، دون دعم من الأطراف الأخرين في المعادلة الدولية.
وهنا يمكننا القول بأن "الدبلوماسية التشاورية" تبدو فصل فصلا مهما في تاريخ العلاقات العربية، والدولية في المرحلة الراهنة، إثر حالة من الامتداد المنتظم، انطلاقا من "الثنائية" التقليدية، مرورا بـ"الثلاثيات"، في إطار تحالفات صغيرة دشنتها مصر مع شركائها الإقليميين، وحتى مستوى أكثر جماعية، في صورة اجتماعات وزارية تحت مظلة الجامعة العربية، نجحت في تحقيق توافقات كبيرة في العديد من القضايا الدولية والإقليمية، وربما تصل إلى مستوى القمة مع انطلاق القمة العربية المقبلة في الجزائر.