يقول بعض الحكماء، (إن المكان الذي نسكنه يسكننا ويقيم في قلوبنا بكل ما فيه من جمال ومحبة)، والشاعرة الروائية والتشكيلية (ميسون صقر القاسمي)، تؤكد هذه الحكمة في الارتباط بالمكان والزمان في مصر عبر تجربتها وعطائها الأدبي، ومن خلال كتابها الأخير (ريش عين على مصر)، تحتضن (ميسون) مصر كلها أرضا وشعبا، وهى تستدعي الذاكرة بكل ثرائها وعمقها التاريخي في الوثائق لتسلط الضوء على تاريخ مصر الحديث، فنا وأدبا وجمالا وعمرانا، ولعل هذا العمل السردي الملحمي يكشف عن الجهد الكبير الذي بذلته الكاتبة على مدى سنين حتى خرج بهذه الصورة المعبرة عن روح المكان وتاريخه، لتقدم لنا ملحمة أدبية بطلها مقهى جعلته الذاكرة التاريخية أشبه ما يكون بالأسطورة، حيث عادت الشاعرة المبدعة ميسون القاسمي لتخرجه من بطون الملفات إلى النور وحياة الناس من جديد.
عبر كتابها (ريش عين على مصر)، قدمت لنا إضاءات مفعمة بالمحبة التي ألهمتها لكي تستنطق (مقهى ريش)، فيحدثها عن سيرته الذاتية التي امتزجت بسير الألوف من رواده وزائريه ومصوريه، لذا استحقت بجدارة وموضوعية، جائزة الشيخ زايد للكتاب (فرع الآداب) عن كتابها التوثيقي التاريخي والحكائي الذي جاء في 650 صفحة من القطع الكبير، ويشكل الكتاب أول جنس أدبي من نوعه موضوعه (مقهى) في إطار مكان أوسع هو مصر، وفي الإطار أيضا القاهرة التي تشكل روح الكتاب كمدينة، وناس، وذاكرة، وتاريخ، وتأتي خاصية هذا النوع من الكتابة استنادا إلى القدرة الأدبية الاستثنائية في تجميع أكثر من رافد تاريخي ووثائقي ومعلوماتي في نص واحد متعدد الأزمنة والأمكنة وكلها معا مشدودة إلى كينونة وتاريخية هذا المقهى الذي يتحول إلى عين بانورامية شاملة الرؤية المحيطة ببلد كبير وعظيم هو مصر.
وهنا تجدر الإشارة أولا إلى طبيعة (ميسون صقر القاسمي) الكاتبة وبراعتها بل شفافيتها في مثل هذه الكتابة الاسترسالية النهرية إن جازت العبارة، فلا ننسى ونحن في قلب هذه الكتابة أن المؤلفة هى في الأصل روائية وقبل الرواية هى شاعرة، وفي موازاة الشعر هي رسامة لها تجارب تشكيلية غنية بالجمال والرؤية والفكر، فقد حولت (ميسون) في هذا الكتاب الصور والوثائق والتاريخ إلى عمل فني متكامل يصوب أعيننا على مصر العصور القديمة، منذ الفترة الرومانية، مرورا بالقاهرة الخديوية، انتهاء إلى القاهرة الحديثة: الأسوار، الأبواب، الشوارع، الميادين، المعمار، التماثيل، وسط البلد، العمارات ذات البناء الكلاسيكي الراسخ في الذاكرة والمكان، وكل هذه التفاصيل، مرة ثانية مشدودة إلى ما يمكن أن يسمى (المشيمة المكانية) أي المقهى، وتحديدا، مقهى ريش.. المكان الاجتماعي والثقافي والسياسي الأشهر في القاهرة، بل، وامتدت هذه الشهرة ذات المحمول الثقافي إلى أرجاء الوطن العربي، وكتابه، ومن ثم أصبح (ريش) مكانا جاذبا للشعراء والرسامين والروائيين أكثر من غيرهم من أدباء مصر والعرب، وسيكون أيضا ملهما لهم في كتابة أدبية مكانية مرتبطة بالذاكرة، والتاريخ.
تخبرنا (ميسون) في كتابها الاستعادي الاستقصائي أن (ريش) أنشئ في نهايات القرن التاسع عشر على أنقاض قصر يعود تاريخه إلى عام 1836، وعلى الرغم من أن القاهرة مدينة مقاه بامتياز، تجذب المصريين كونها تحمل روح الحارة والشارع المصري ببساطته وتلقائيته مثل مقهى (الفيشاوي، قشتمر، البوستة، أبو شنب فضة، نوبار، التجارة، الكتب خانة، العالية، اللواء، سي عبده)، وغيرها من مقاه معروفة في القاهرة إلا أن الصدارة في الحضور الثقافي تحديداً هي دائماً لمقهى (ريش) الذي حافظ على شخصيته التراثية إلى اليوم، وإن طرأ عليه بعض التجديد من وقت إلى آخر، ومن هنا يفتح كتاب (ميسون صقر القاسمي) أعيننا وقلوبنا أيضا على مصر.. أم الدنيا المحروسة دائماً بعيون القلب الذي يحمل في طياته حبا وعشقا لمصر وشعبها.
تستعرض (القاصمي) في طي الصفحات المكتوبة برشاقة لغة أدبية خالصة تاريخ مقهى (ريش) منذ أن اختار مالكه الأول (ميشيل بولتيس) اليونانى المغامر محب الفن والثقافة هذا المسار، وصولا لعائلة (عبدالملاك) التى لا تزال تديره من خلال أحفاده كإرث ثقافى يتجاوز الخاص إلى العام، ليمثل الكتاب مدخلا فريدا لتناول تاريخ القاهرة ورحلتها مع من منظور اجتماعى ثقافى، واستهدف بناء سردية جديدة لهذا التاريخ تأسست على التفاصيل الصغيرة، وما يسميه المؤرخون (التاريخ من أسفل)، فالمقهى فى الكتاب كحاضن اجتماعى ووثيقة انتماء تعتمد إلى جانب المرئى والمكتوب على الكثير من المرويات الشفاهية وتعمل على التحقق منها بمختلف آليات التحقيق والبحث التاريخى العميق.
كما تقدم الكاتبة المراسلات التى قدمها فاعلون فى تاريخ مصر، فضلا عن الطوابع البريدية، والإعلانات التى كشفت عن الدور الحيوى الذى لعبته المقاهى فى الحياة الفنية سواء فى المسرح أو عالم الموسيقى والغناء، كما وثق الكتاب لقصص الحب التى نمت فى فضاء ريش وأشهرها تجربة (الشاعر أمل دنقل مع الناقدة عبلة الروينى وعبدالرحمن الأبنودى وزوجته الأولى المخرجة عطيات الأبنودى)، ويتضمن الكتاب سردية فريدة لرحلة القاهرة مع التحديث المعمارى، طوال قرن كامل، ويظهر الأدوار التى لعبتها المقاهى فى تاريخ المدينة خلال العصر الحديث.
يركز الكتاب على مقهى (ريش) كإحدى نقاط السحر فى وسط المدينة، ويكشف الكتاب كذلك عن الدور الذى لعبه فى إنتاج الأفكار وبلورة صيغ فريدة للحوار اقترنت بمحطات التحول الرئيسية وبصورة جعلته أحد المعالم الثقافية الرئيسية فى عمارة المدينة التى تقاطعت مع الشأن العام، ولهذا يعد هذا الكتاب من الركائز الأساسية لتوثيق الحياة الاجتماعية والسياسية فى مصر مستندا على وثائق (مقهى ريش) التى حصلت عليها الكاتبة من مالك المقهى (مجدى عبدالملاك)، وتعد كتابة كتاب (مقهى ريش .. عين على مصر) وثيقة مهمة، حيث جاءت الفكرة للكاتبة عبر قراءتها لوثائق مقهى ريش، وكانت قد بدأت العمل فى مشروع هذا الكتاب منذ 2011، وخلال أربعة فصول، تصحبنا ميسون صقر فى رحلة للنعرف خلالها على القاهرة الخديوية، وتطرق إلى تفاصيل التاريخ المعمارى والثقافى والسياسى والاجتماعى لتلك الفترة، والمقاهى فى القاهرة، كما يتناول الكتاب تعريف تفصيلى بالقاهرة الخديوية، حيث جاء الفصل الأول سرد عن المعمار فى تلك الفترة، والثانى تناول الوثائق، والثالث تناول الأحداث السياسية والثقافية والاجتماعية التى مرت بها مصر.
وعلى حد قول الأديب الجزائري الكبير (واسيني الأعرج): يبدو واضحا منذ روايتها الأولى (ريحانة)، ثم (في فمي لؤلؤة)، وأخيراً سرديتها (مقهى ريش)، أن الكاتبة الإماراتية ميسون صقر القاسمي، لا تكتب لمجرد الرغبة الثقافية الهاربة، لكن بوصفها حاملة لقضية متجذرة وعميقة، ليس بالمعنى السياسي التبسيطي، لكن بالمعنى الحامل لهاجس مركزي يسير على هديه كل من اختار القلم، إضافة إلى أنها لا تستطيع أن تتخلص من شرطيتها كونها امرأة، ليس بالمعنى الجندري، في مجتمعات عربية ما تزال حبيسة التقاليد الميتة التي تحد من انطلاقها وقدرتها على العطاء، ففي روايتها الأولى (ريحانة، التي صدرت عن دار الهلال في القاهرة، تلامس البنية التحتية لواقع الخليج في فترة ما قبل النفط، في السياق نفسه، اشتغلت (في فمي لؤلؤة - 2016) على الميراث الشعبي بكل غناه ومعاناته. يكفي أنها قضت سبع سنوات من البحث والتقصي.
ويضيف (الأعرج) أن نصها (مقهى ريش .. عين على مصر) الذي تحول على يدي ميسون إلى سيرة لمكان أوسع من مجرد مقهى، ولم تأبه الكاتبة كثيراً بالتصنيفات الجنسية الجاهزة التي تقربه أو تبعده عن (الرواية) يضاف إلى ذلك كله رصيدها الفني التشكيلي المهم، وخبرتها الشعرية المميزة التي تراوحت بين العربي الفصيح والمصري الشعبي: (هكذا أسمي الأشياء، الآخر في عتمته، تشكيل الأذى، عامل نفسه ماشي (عامي مصري)، وغيرها من المجموعات، ما قالته الكاتبة في (ريحانة)، وفي (فمي لؤلؤة)، يثبت أننا أمام تجربة روائية وسردية شديدة التمايز، لا غرابة، فهذه السردية نجدها مبثوثة في كثير من قصائدها، حيث أولتها مساحة تجعل القارئ وهو ينتهي منها، هل كان بصدد قصيدة أم في عمق سردية وضعت المأساوي كأفق تعبيري وكتابي. فقد أدركت ميسون وهي المثقفة سياسياً في تكوينها الأكاديمي (خريجة الاقتصاد والعلوم السياسية، القاهرة 1982).
بقي لي أن أذكر أن (ميسون صقر القاسمي) واحدة من أبرز كاتبات الوطن العربي، جاورت بين الفنون، فهي الشاعرة والروائية والتشكيلية وكاتبة السيناريو، ولم يفتها أن تكون الباحثة، بصيغة أخرى تسرب فيها كل تلك الفنون عبر الكتابة، ليأتي كتاب (مقهى ريش.. عين على مصر) خارج التصنيفات المحدودة للكتابة، والذي يعد بمثابة تطوافا معرفيا موسوعيا، جامعًا للتاريخ والوثيقة والجغرافيا، معنيًا بتفاصيل وتاريخ مصر الثقافى والاجتماعى والسياسى والمعماري في 100 عام (القاهرة الخديوية).
ومن لايعرف (ميسون صقر القاسمي) فهى الشاعرة التي ولدت فى الإمارات العربية المتحدة سنة 1958، تخرجت فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية قسم علوم السياسة عام 1982، أقامت فى القاهرة بين عامى 1964 و1989 ثم عادت لتقيم فيها منذ 1995، عملت من سنة 1989 وحتى 1995 فى المجمع الثقافى فى أبو ظبى رئيسا للقسم الثقافى ثم لقسم الفنون ثم لقسم الفنون والنشر.
قدمت تسع مجموعات شعرية هى (هكذا أسمى الأشياء - 1983 و(الريهقان، جريان فى مادة الجسد، البيت، الآخر فى عتمته، مكان آخر، السرد على هيئته، تشكيل الأذى، رجل مجنون لا يحبنى)، كما أصدرت ديوانين باللهجة العامية المصرية هما (نفسه ماشى، مخبية فى هدومها الدلع)، وأقامت ميسون صقر تسعة معارض تشكيلية فى القاهرة والإمارات العربية المتحدة والأردن والبحرين، كما شاركت فى معرض الفنانات العربيات فى الولايات المتحدة الأمريكية، وفى عام 1990 ــ 1991 أقامت أول معرض تشكيلى لها فى الإمارات ثم نقل فى نفس العام إلى القاهرة باسم (خربشات على جدار التعاويذ والذكريات لامرأة خليجية مشدوهة بالحرف واللون) ممازجة بين الشعر والتشكيل وأصدرت بصدده كتيبا للمعرض يحوى بعض النصوص، وعام 1992 أقامت معرضها الثانى فى القاهرة ثم تم نقله إلى الإمارات باسم (الوقوف على خرائب الرومانسية)، وأصدرت معه كتيبا يحوى بعض النصوص.
وأخيرا تقول عن نفسها هناك أحساس يتملكني أنا شخصيا هو الحنين، وآخر هو النظر إلى التجديد، شيء مفرح أن ينظر إلى الأشياء الموجودة كقيمة جمالية ومعمارية وحضارية، هذه الأشياء كانت مهملة إلى حد ما، ومعنى الاهتمام بها الآن هو لصالح قيمة المكان وقيمة العمارة وقيمة الميدان، وقيمة ومعنى التجديد المرتبط بالحرص على التاريخ، معماري مصري هو من نفذ ميدان التحرير ومعه محكمة النقض الموجودة حاليا في وسط بشارع فؤاد، وهو يعني عندها أن الأماكن أرواح تحمل ذاكرة قديمة ، بحكم أنني عشت داخل بيوت قديمة كثيرة، دائما ما أنظر إلى الأماكن كأرواح تحمل ذاكرة قديمة، ثمة أقدام مرت من هنا قبلنا، وبالمناسبة بيتي الذي أسكن فيها الآن بالقاهرة في ضاحية مصر الجديدة قرب أن يصل عمره بنائه إلى مائه عام، أنظر إلى البيوت كذاكرة مشغولة بالموسيقى والأصوات التى سبقتنا هنا في الحديث، كذلك البيت الذي عشت فيه بالإمارات كان بمثابة حصن بني منذ عام 1800، أي ما يقرب من 200 عام، فكرة البيوت القديمة لها شخصية خاصة بها، وخاصة بهؤلاء الذين حضروا فيها.