انتهيت، مؤخرا، من قراءة رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" للكاتب الليبى محمد النعاس، والتى حصلت مؤخرا على الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر"، وأول ما يمكن الإشارة إليه فى هذه الرواية أن محمد النعاس لديه فهم معين لفن الرواية، وهذا أمر جيد، سواء اتفقت مع هذا المفهوم أو اختلفت معه، لأن الكاتب الذى لا يملك مفاهيمه الخاصة للفن الذى يكتب فيه لن يصل إلى شيء، ويمكن ملاحظة عدة عناصر نفهم بها عالم الرواية:
المجتمع الليبى يدفع الثمن
أراد محمد النعاس أن يقدم لنا المجتمع الليبى (المدينة والقرية) فى فترة فارقة فى تاريخها، فترة تولى العقيد للحكم، فى مقارنة واضحة بين ما قبل وما بعد، فترة تكشف أن المجتمع تراجع إلى الخلف، أن الحريات فُقدت، والجمال تراجع، والأحلام ضرب خيال، كل شيء صار فى حالة يرثى لها، المؤسسات بكل ما فيها من تعقيد، والقرية بكل ما فيها من تنميط، إذن الرواية إدانة للمرحلة، وكاشفة عن النظرة التى راحت تحاصر كل شيء، وارتفاع نغمة السلفية بكل ما فيها.
الشخصيات.. الجميع ضحايا
ليس "ميلاد" فقط هو الشخصية المأزومة فى الرواية، الجميع كذلك (زينب والمدام والعبسى والعم محمد، والأخوات) وغيرهم الكثير، الجميع لديه ما ينغص عليه يومه، لكن "ميلاد" لديه الأزمة الكبرى، لأن كل ما يقوم به مخالف للمجتمع فهو متآكل الروح، به رقة أنثوية، تأثر بالحياة مع أخواته البنات، وعلى الرغم من عمله خبازا أمام الفرن، لكن نار الفرن لم تنضج روحه كما يريد المجتمع، كل هذا مع أنه فى مجمله شخصية محبة للجمال وضد القبح، لا يحتمل وجود أرض بور أو حديقة غير مشذبة، ولو تركه الناس فى حاله لعاش حياة هادئة، لكنه مصطلى بالنار بين أبيه وابن عمه العبسى، تلقى العديد من الصفعات على الوجه والروح تكفى لتدمير أى إنسان، وقد راهن على الحب لكن الحب لم ينصفه.
لقد نجح محمد النعاس فى رسم الشخصيات، خاصة شخصية العبسي، ابن العم، إن دوره مهم جدا، لأنه بمثابة النقيض لشخصية "ميلاد" هو صورة طبق الاصل من الرجل الشرقى بكل ما فيه.
أما "زينب" فيحسب لمحمد النعاس أنه جعلنا نحبها حتى النهاية، لن نستطيع أن نكرهها، بل نتعاطف معها، ومن الممكن اعتبارها رمزا لليبيا، الحالمة بمكانة تليق بها، لكن هذه الأحلام تتحطم على كل المستويات، إنها ضحية بامتياز، لا أحد معها، حتى أسرتها لا نجد وجودا سوى لعمها الذى يبدو أنه آذاها أكثر مما أفادها، وأخوها الصديق القديم لميلاد، الذى ظل مجرد شبح نسمع عنه ولا نراه.
من الشخصيات التى ظهرت بصورة مكتملة "صالحة" الأخت الكبرى، بكل ما فيها من شموخ وبكل ما فى أفكارها من رجعية، بكل ما فى قلبها من حنان وما فى روحها من مقاومة، لكن الزمن تبدل والحال تغير، فانزوت لأن أفكارها لم تعد تليق بما استجد.
وتظل المدام "حلم" بها بعض التطرف، لكنها تصلح أن تكون المستقبل، بميزاته وعيوبه، لقد أجاد "النعاس" فى تقديمها جميلة مشرقة.
فى النهاية نقول، احتفظ محمد النعاس بالقدرة على التشويق طوال الرواية، فقد جعلنا نريد أن نعرف المصائر كيف تنتهى، وجعلنا نتعلق بالشخصيات ولا نتركها تمر مرور الكرام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة