المفارقات هي نقوش بارزة في حياة نجيب الريحاني التي تمر ذكرى رحيله اليوم، ما إن يصعد به الحظ حتى يعود ويهبط به إلى سابع أرض، في طفولته ألحقه والده بمدرسة الفرير لتعلم اللغة الفرنسية، مستمعًا إلى نصيحة صديق له بأن اللغات تساعد على الالتحاق بالوظائف الكبيرة والمضمونة، فأتقن اللغة الفرنسية وكانت أحد أسباب توغله في رحلة الفن، حيث قام بترجمة معظم أعمال الأديب الفرنسي الساخر موليير، فصار هو موليير الشرق فيما بعد.
مات الأب ثم ترك نجيب المدرسة وهو على أعتاب نهائي البكالوريا، زاد ارتباطه الوثيق بأمه المعروفة وسط عائلتها بسخريتها اللاذعة، لكن المثير للدهشة أنها وقفت في وجه ابنها وتصدت له، حين قرر أن يلتحق بالتمثيل، طابعها الصعيدي المتسق مع زمنها حينذاك، ساهم في ترسيخ النظرة الظالمة للممثل على أنه "مشخصاتي"، باعتباره يمتهن عملًا موصوفصا بالعيب، أرادت لابنها مهنة تقليدية ومستقرة، كأن يصعد في عمله ككاتب حسابات في شركة السكر بنجع حمادي، رغم أنه كان يتقاضى منها راتبًا شهريا بسيطًا (ستة جنيهات) ، إلا أنها رضيت بذلك.
أما نجيب فكان له رأي آخر، استقال من شركة السكر وعاد الى القاهرة ليجد نفسه في مهب رياح التغيير، لم ينكسر إنما رسوخ موهبته قاده إلى شارع عماد الدين، ليكون مع صديق قديم ( محمد سعيد) فرقة مسرحية لتقديم الاسكتشات الخفيفة لجماهير الملاهي الليلية، خطوته الأولى قبل أن ينضم إلى فرقة عزيز عيد المسرحية ثم يؤسس فرقته الخاصة.
عمل متواصل وأم غاضبة تطرده من البيت، ونجاح وشهرة تذيب القسوة في قلب الأم التي تسمع الثناء على ابنها في "المترو" فتصرخ بأعلى صوت "انه ابني.. نجيب هو ابني"، رضا الأم يسعده، ثم يصيبه القدر بشقاء آخر وهو الانهيار المالي الذي تعرض له بسبب انهيار أسعار العملات الأجنبية مما أثر على أحوال فرقته وعمله عمومًا.. هذه هي حياة الريحاني الذي واجه أعاصيرًا قوية ، دائماً لديه هذا الشيء الناقص، هذا الحلم غير المكتمل، سؤاله الوجودي المأزوم حتى أنه لم يحصل على حبيبته "بوسي" التي ساندته كثيرًا، ثم تجدد الأمل حين تقابل مع بديعة مصابني وتزوجا وبعد سنوات من الشد والجذب تطلقا قبل وفاته بعامين تقريبًا.
ظل طوال الوقت موزعًا بين التناقضات والمفارقات، ولديه هذا الشعور بالمرارة، أظن أنه كان في قرارة نفسه يشعر بعدم الوفاء، هذا الشعور أستشفه فيما كتبه في رثاء كلبته: "كلبتي هي الأنثي الوحيدة التي تعرف الوفاء والإخلاص، إنها أعز مخلوق لدي وأقرب صديقاتي إلي قلبي، مضيفًا: كلبتي – يا حضرة – حيوان أتحدث إليه، يفهم ما أريد أكثر من أي إنسان، هي أليفتي في المنزل، وصديقتي في الشارع وزميلتي في العمل، تشاركني في التمثيل ولا تتعبني في إخراج دورها فهي تجيده ولا تنساه، ولا تتأخر عن موعد العمل.. ومن هنا كانت "الممثلة الوحيدة" التي أبقيت عليها من أفراد فرقتي المحلولة.. وعندما سافرت إلى لبنان فارقتها لأول مرة في حياتي وقد أصيبت بمرض من جراء حزنها العميق.. وكنت أراها كثيرًا في المنام.. وبعد عودتي لم تكد تراني بعد غيبة حتي وقفت بعيدة عني وهي التي كانت تتحرق شوقا إلي لقائي، واغرورقت عيناها بالدموع وكأنها تقول: إخس عليك يا خاين العيش والملح!".
ربما يكشف هذا عن جزء آخر في شخصية الريحاني، الرجل الملتاع في حبه ويؤكد حظه العاثر في الحب، كأنه عقد صفقة أبدية مع سوء الحظ، لكن مساره العملي الحافل، تغير واتخذ وِجهة مختلفة بعد "كشكش بيه"، شخصيته المسرحية الشهيرة التي كرسته نجمًا كوميديًا، ساخرًا في مجتمع يشهد مثله الكثير من المفارقات والتقلبات والتغييرات.
من هذه الزاوية، تذهب أعمال الريحاني عميقًا في السخرية، وكما تمحو هذا الفارق اللفظي بين الضحك والبكاء، تباغت العقل وتقتحمه وتستدعي كل الحواس إلى مساحة مهيأة للعواطف حيث يطرح الفرح حزنًا والحزن فرحًا، وهي تلتزم بالسخرية كفن يمنح القضايا الكبيرة بُعدها الإنساني دون ابتذال أو غلاظة، فتبدو أعمال الريحاني كأنها بيان فني للمضرجين بجراحهم الاجتماعية مرفوع ضد المرحلة التي ظهرت فيها، والمدهش أن البيان الريحاني ظل مرفوعًا في كل المراحل التي أعقبته لتعلنه أكثر حضورًا وتأثيرًا في أجيال كثيرة استلهمت تجربته واستمدت منها طاقة السخرية اللاذعة، حسب توصيف د. محمد كامل القليوبي في كتابه "نجيب الريحاني.. ذكريات وأشواق"، يقول القليوبي: " ستظل باقية ما بقي هناك أناس يحبون ويكرهون ويغضبون ويعانون من كافة أشكال القهر والسحق الاجتماعي ثم يخرجون لها ألسنتهم ضاحكين وهازئين، وإن لم يفعلوا فإن الريحاني سيقوم بذلك بالنيابة عنهم جميعاً لينتقم لهم من كافة منغصات حياتهم ومما يضايقهم ويكدر صفوهم ببعض الحكمة والضحك الممرور".
هنا ندرك أن الحضور القوي للريحاني جيلًا بعد جيل كإمام لـ"الكوميديانات" لا يتمثل في فكرة الزمن المجردة، لكن خطواته على درب السخرية بارزة لدرجة الاقتحام، لا تجرفها أو تمحوها العوامل الزمنية، المتأمل في مسرحيات وأفلام نجيب الريحاني، يجد أنها لا تخلو من الكوميديا الصارخة على طريقة "شر البلية ما يضحك"، على هذا الأساس استمر فنه أكثر من قرن واستمر الكوميديون بعده على دربه رغم التطور المذهل الذي طرأ على الفكر الاجتماعي، أظن أن نوعية ما قدمه الريحاني هو ما تحتاجه المجتمعات خصوصًا في الظروف والتحولات الصعبة، على اعتبار أن السخرية في أعماله لا تثير الضحك فقط وإنما تفضح المستور والمخفي، ويستقبلها الجمهور بإدراك آخر هو إدراك التلذذ بالألم، وهذه قاعدة أساسية في فن السخرية، حسب ما يؤكد الطبيب النفسي “ألفرد أدلر”، حين يعرّف السخرية بأنها “خليط من انفعالين هما الغضب والاشمئزاز".
من هذه النقطة، أتوقف قليلًا أمام مقولة الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني: "إن السخرية ليست تنكيتًا ساذجًا على مظاهر الأشياء، ولكنها تشبه نوعًا خاصًا من التحليل العميق. إن الفارق بين النكتجي والكاتب الساخر يشابه الفارق بين الحنطور والطائرة، وإذا لم يكن للكاتب الساخر نظرية فكرية فإنه يُضحي مُهرجًا".. الريحاني أدرك هذا الفارق في مرحلة مبكرة في حياته الفنية وتعامل بذكاء وسرعة بديهة وخيال رحب كممثل وكمخرج وكصاحب فرقة مسرحية، وتوغل مع رفاق الرحلة والمشوار في القضايا المجتمعية والإنسانية من باب "السيكولوجي"، فكان أمير الضحك وصاحب السعادة الذي يحول المآسي إلى مهازل والألم إلى موقف كوميدي مضحك، أو ما اصطلح عليه نقديًا بـ "كوميديا الموقف" القائمة على المفارقات.
من هذه النقطة أيضًا، نكتشف أن السنوات الطويلة مضت، دون أن تبخس الريحاني حقه، فمازالت أعماله خالدة، نحو تسعة أعمال سينمائية تقريبًا، أبرزها (سلامة في خير) 1937 ، (سي عمر) 1941، الفيلمان إخراج نيازي مصطفى، (أحمر شفايف) و(لعبة الست) في عام واحد ومخرج واحد هو ولي الدين سامح، (أبو حلموس) 1947 إخراج إبراهيم حلمي، إلى أخر أفلامه (غزل البنات) 1949 إخراج أنور وجدي، صحيح أن هناك فيلمان مفقودان (كشكش بك، بسلامته عايز يتجوز)، لكن بقية أعماله المتاحة الآن، تدل على أن نجيب الريحاني دائمًا في خير، وأن الخير في أعماله المعبرة عن نبض الحياة والمجتمع، ومعنى الفرد وموقعه في هذا المجتمع. ذلك أن تمرد الريحاني الحياتي والإبداعي منحه قوة العيش على حدود السنوات الطويلة من المماحكة والغضب، الحلم وقلة الحيلة، السعادة وخيبة الأمل، كل هذا أسس تجربته التي اختار الصراحة عنوانًا لها.
يقول الريحاني في مذكراته: "خلقت صريحًا لا أخشى اللوم فى الحق ولا أميل إلى المواربة والمداراة وأذكر الواقع مهما كانت مرارته وأسجل الحقائق مهما كان فيها من ألم ينالنى أو ينال غيري بل إننى كلما سردت واقعة فيها ما يشعر بالإقلال من شأنى أحس السعادة الحقة.. سعادة الرجل الصادق المؤمن الذى يقف أمام منصة القضاء ليدلى بشهادته الصحيحة ثم يغادر المكان مستريح".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة