حين لفظ الموسيقار محمد الموجى أنفاسه الأخيرة، فى 1 يوليو، مثل هذا اليوم، 1995، كان يختتم حياة استمرت 72 عاما «مواليد 4 مارس 1923»، وثورة فى الموسيقى العربية بدأها مع رفيق دربه عبدالحليم حافظ، الذى استمع إليه صدفة فى الراديو، بينما كان يسير فى حى إمبابة مع صديقه الشاعر سمير محبوب، وفى اليوم التالى، طلبه من الإذاعى الكبير حافظ عبدالوهاب، فرد حافظ: «لولا أنى أعرف أن فيك شيئا جديدا لما أعطيته لك»، وهكذا بدأ اللقاء الفنى بينهما، وانطلقا معا يحققان نجاحا بعد آخر، وما ساعدهما على ذلك أن فرصة النجاح جاءت لهما من أوسع الأبواب، ففى حفل أضواء المدينة بحديقة الأندلس فى القاهرة، يوم 18 يونيو 1953، وقبل ظهور عبدالحليم مباشرة على المسرح، ظهر عملاق المسرح المصرى يوسف وهبى، وأعلن للحاضرين وللمستمعين عبر موجات الأثير: «اليوم أزف لكم بشرى ميلاد الجمهورية، وأقدم لكم الفنان عبدالحليم حافظ»، وبعدها ظهر عبدالحليم، الذى كان على موعد مع المجد والشهرة فى تلك الليلة الفاصلة فى حياته الفنية، وغنى فيها أغنية صافينى مرة، ألحان الموجى، وحقق نجاحا يفوق كل تصور، وفقا للدكتور زين نصار، فى مجلة الفنون، العدد 58 عام 1995.
كان لقاء الموجى مع عبدالحليم، هو منصة الانطلاق للثورة الموسيقية والغنائية فى مصر والعالم العربى، فى فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، ويحسبها الناقد والمؤرخ الفنى، كمال النجمى، فى كتابه «تراث الغناء العربى»: «فترة ذات طابع رومانسى خاص فى الموسيقى والأدب والفن، فترة الصعود القومى والاجتماعى والسياسى، وانطلاق الخيال المصرى والعربى إلى آفاق رحبة متعددة».
دخل الموجى هذه اللحظة مسلحا بما اكتسبه من بيئته الأولى، لتتكون منها حالته، وكانت كما يصفها «النجمى»: «أشبه بالمطرب الملحن «محمد الزف» فى عهد إبراهيم الموصلى، قبل ألف عام فى بغداد، لا يسمع لحنا إلا التقطه وسجله فى دماغه، كأنه وضع داخل رأسه جهاز تسجيل، وبفضل جهاز تسجيله هذا، حفظ كل ما سمعه من ألحان الجيل الأول، الذى اضطلع بمهمة إحياء الغناء العربى، أمثال محمد عثمان وعبده الحامولى ومحمد المسلوب وإبراهيم القبانى ومحمد على لعبة، إلى ألحان الجيل الذى جاء بعدهم وعلى رأسهم سيد درويش».
كان لبيئته الأولى فى «بيلا» بمحافظة كفر الشيخ فضلها الأول فى تأهيله، كى يصبح هذا الاستثنائى فى تاريخ الموسيقى العربية، الذى يصفه محمد عبدالوهاب فى «أوراقه الخاصة جدا»، إعداد فاروق جويدة، قائلا: «مخ رياضى، وأجمل جملة عنده تلك التى تحتوى على تركيبات رياضية منطقية، وليس عند الموجى وسط»، وعن هذه البيئة، يذكر زين نصار: كان والده يعمل كاتبا فى مصلحة الأملاك الأميرية، ويهوى الموسيقا ويمتلك آلة عود يعزف عليها من آن لآخر، وكان عمه من محبى الغناء، ويمتلك مكتبة موسيقية تضم العديد من أسطوانات أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، وفى هذا الجو الفنى نشأ، وعندما بلغ السادسة، انتقل مع أسرته إلى بلدة «دمرو»، والتحق بالمدرسة الأولية، وكان يستهويه آنذاك إنشاء المداحين، وحصل على الشهادة الابتدائية ثم الثانوية، وحلم والده بأن يتخرج ابنه ويعمل ناظرا للزراعة، ليفخر به، فألحقه وعمره 17 عاما بمدرسة الزراعة بشبين الكوم.
حصل على دبلوم الزراعة، وأصبح ناظرا للزراعة فى بلدة بيلا ثم فى إيتاى البارود، وكان يقضى أوقات فراغه مع آلة العود، وخلال فترات إجازاته، التى كان يقضيها فى بلدته بيلا، كان يغنى على عوده بصحبة أصدقائه فى المناسبات، وفى القاهرة، كان يقضى يومى الخميس والجمعة أسبوعيا، يزور فيهما صديقه الملحن فؤاد حلمى، الطالب بمعهد «فؤاد الأول للموسيقى العربية»، ويتزود خلال هذه الزيارة بالمعلومات الموسيقية والثقافة الفنية، وظل على هذا الحال ثلاث سنوات، وتقدم للإذاعة للامتحان كمطرب وملحن، وفى الامتحان غنى قصيدة لمحمود سامى البارودى من تلحينه مطلعها: «غلب الوجد عليه فبكى/ وتولى الصبر عنه فشكى»، ولكنه لم ينجح، وفى عام 1949 استقال من عمله، وحضر إلى القاهرة، وبدأ يعمل فى الملاهى، وساعده صديق فى التقدم مرة ثانية لاختبارات الإذاعة، ونجح كملحن.
يذكر النجمى: «ظل يمشى خطوة إلى الأمام، ونصف خطوة إلى الوراء، فيتقدم بألحانه إلى المطرب المشهور محمد عبدالمطلب، فلا يقبلها منه لأنه ملحن مغمور، ويتقدم إلى آخرين من المشاهير وأشباه المشاهير، فلا يقبل أحد منهم ألحانه، ولما لحن أغنية صافينى مرة، عرضها على مطربة كانت تعمل فى صالة زينب عبده بكازينو «البوسفور» المطل على باب الحديد، وفرح لما قبلت المطربة شبه المجهولة أن تغنى لحنه هذا، ويبدو أن غناءها لم يعجبه، فعرض اللحن على المطرب عبدالغنى السيد، الذى كان حتى منتصف الأربعينيات من القرن الماضى، المطرب الثانى بعد عبدالوهاب، فاعتذر، وأفهمه أنه لا يغنى إلا للكبار».