لفيلم "الظلال فى الجانب الآخر" (1974) مكانة كبيرة عند الكثير من السينمائيين المصريين، ليس لأن مخرجه غالب شعث (غادرنا هذا الأسبوع عن عمر يناهز 87 عامًا) أول مخرج فلسطينى فى السينما المصرية منذ إبراهيم لاما، أو بسبب أنه مأخوذ عن رواية الكاتب المسرحى المصرى محمود دياب، أو حتى كواحد من أفلام رسخت محمود ياسين، ليكون من أيقونات سينما حرب أكتوبر والعبور والصراع العربى الاسرائيلي: أغنية على الممر، الرصاصة لا تزال فى جيبي، الوفاء العظيم، بدور، الصعود إلى الهاوية، حائط البطولات، فتاة من اسرائيل، وبالطبع معهم ظلال فى الجانب الآخر.
إنما الأهم وإضافة إلى كل ذلك أن الفيلم وهو الأبرز فى مسيرة مخرجه، غالب شعث ابن القدس الدارس فى القاهرة والنمسا، يعد جزءً من حركة التغيير التى حدثت فى زمنه، إنه مثل غالب نفسه الذى كان عنصرًا فعالًا فى محاولات التجديد السينمائى حينذاك، بل أن فيلمه هذا قد تماهى موضوعه مع واقعه، فى لحظة تاريخية مشحونة بالجرح والغضب والمثابرة من أجل مقاومة الهزيمة واليأس.
القاهرة كانت جزءً من وجدانه، يقول فى كتابه (من أوراق المُهاجر) الصادر فى قرابة الأربعمائة صفحة عن دار الجندى للنشر والتوزيع فى القدس العام: "فى القدس كانت عبارة (هنا القاهرة)، التى دأبت على سماعها منذ طفولتى المبكرة، من راديو المقهى المجاور لدارنا، تشكّل لى حلمًا".
أما نكسة يونيو 1967، فكانت جزءً من أزمته، بل محور شدته ومحنته، قد ألقت بظلالها الثقيلة عليه وعلى المجتمع المصرى والعربى عمومًا، الصدمة شديدة، مفزعة، محبطة لكل الأحلام، لكن فى لحظة وعى وتحد إنتفضت موجات ساعية إلى التغيير، منها جماعة السينما الجديدة التى أنشئت فى العام 1968، وضمت على عبد الخالق، محمد راضي، رأفت الميهي، أحمد متولي، رحمة منتصر، محمود عبد السميع، سعيد شيمي، سمير فريد، سامى السلاموني.. وغيرهم مثل هذا الشاب الفلسطينى الذى درس السينما والعمارة فى فيينا، ثم التحق بالعمل مخرجًا فى التليفزيون المصري، وقدم عددًا من السهرات التليفزيونية.
غالب شعث العضو المؤسس فى جماعة السينما الجديدة، الرافضة للطابع القديم والتقليدى فى السينما المصرية، قدم فيلمه وفق قناعته فى التجديد وترسيخ مفاهيم مغايرة للفن، تنبع فى أغلبها من الواقع ومن الحياة والظروف المحيطة، لذا ابتعد الفيلم عن "البروباجندا" والضجيج الدعائي، واتجه صوب المساحة الإنسانية وربما المأزق الوجودي، لا أقول أنه الفيلم الأعظم فى تاريخ السينما المصرية أو حتى فى هذه المرحلة القاسية من تاريخنا العام، أو أنه كان الأجود فى تجسيده لتصورات السينما الجديدة، أو حتى صاحب خطوة متجلية فى التجريب، لكنه على الأقل كان طموحًا وصادقًا فى نزعته التجديدية، دون أن يغفل جمهورًا يحتاج التغيير واستيعابه فى حدود إمكانياته وسعة تلقيه.
إنه كما كل رفاقه من المجروحين فى هذه الفترة، قرر استمرارًا للعيش، أن يترجم الألم إلى صورة متحررة من المباشرة. ضربته النكسة فى الصميم، لكنه حوّل الضربة إلى مواجهة سينمائية ومضمون إنسانى وجماليات الطالعة من عمق الجرح.
من هذه النقطة إنطلق الفيلم فى عالم الفنون التشكيلية والأحلام المرجأة وعوامات النيل، بما لها دلالات واضحة تخص أبطال الرواية الذين لا يقفون على أرض صلبة، إنهم مثل أحلامهم فى حالة اهتزاز بين الخيال والواقع. وغالب شعث هنا تمسك بهيكل رواية محمود دياب وملامحها الرئيسية، ثم أضاف ككاتب للسيناريو لمساته وتطلعاته فى تقديم صورة عن مجتمع ما بعد النكسة، فالموضوع هنا لا يحكى فقط عن محمود بطل الحكاية، الطالب فى كلية الفنون الجميلة الذى يسكن مع أربعة من زملائه فى عوامة نيلية، ولا يسرد قصته مع روز حبيبته التى يتخلى عنها، إنما يتسع لأزمة عامة تتعلق بأسئلة وجودية فى واقع الحرب والهزيمة، ما يجعل الطالب الفلسطيني، الشخصية التى أضافها شعث ولم تكن موجودة فى رواية دياب، يستنكر عجزه، مدفوعًا بالأمل فى مواجهة الحياة الوعرة من أجل موصوفة للكرامة والعزة، فيتوجه للالتحاق بالمقاومة الفلسطينية فى الأردن.
الفيلم كما الرواية حافل بالإشارات والرموز، حتى أنه يبدو كما لو كان كشاف ضوء يهدينا إلى ما تخفيه المناطق المعتمة، وهو إن واجه اتهامًا باعتماده على ممثلين يعتبروا من نجوم السينما التقليدية (محمود ياسين ونجلاء فتحى مثالًا)، إلا أنه اتهام مردود عليه من المخرج بأنه تم الانتهاء من سيناريو الفيلم فى العام 1969، وتصويره عام 1970، ما يعنى أن البطلان المذكوران كانا ما زالا يتحسسان خطواتهما على بداية الطريق. وفى تصورى الشخصى أن اختيارات الممثلين تأتى حسب الملائمة وليس النجومية، فقد يرى المخرج أن نجمًا ما يناسبه الدور، وهذا أمر من شأنه ألا يحمل أى تعالى على الجمهور، ولا يجرح قواعد السينما الجديدة.
أما فيما يتعلق بحالته الفنية الكاشفة لما وراء الظلال، فقد تمت مراعاتها فى الشكل السردي، بدا الأمر جليًا منذ العنوان إلى محاولات "شعث" كمخرج وكاتب سيناريو لإخفاء كل الظلال، من أجل أن تظهر الحقيقة.
والحقيقة أن "الظلال على الجانب الآخر" ربما كان لن يظهر إلى النور لولا جماعة السينما الجديدة، صحيح أن الفيلم الذى صوره مدير التصوير سمير فرج ظهر بالأبيض والأسود، وهذا لم يكن اختيارًا فنيًا، بل جاء وفق حدود الامكانيات المتاحة، أو حسب ما أشار شعث فى مذكراته أن جماعة السينما الجديدة، وهى الجهة المنتجة، لم تكن تملك رفاهية الحلم بعمل فيلم بالألوان.
سعى غالب شعث لإنتاج فيلمه، حتى أنه التقى بمنتج عربى حاول التدخل وإجراء بعض التعديلات منها عنوان الفيلم ذاته، كذلك ترشيح ممثلين للأدوار الرئيسية واقتراح ممثلين محددين للقيام بالأدوار الرئيسية، إلى أن تحمست جماعة السينما الجديدة لإنتاجه، لكن إمكانياتها المالية لا تسمح، فكانت تجربة الإنتاج بالمشاركة مع مؤسسة السينما، وتمت بالفعل مع فيلمنا هذا وفيلم "أغنية على الممر" للمخرج على عبد الخالق، المأخوذ عن مسرحية من فصل واحد للكاتب على سالم من مسرحيات المقاومة.
إنه فيلم شجي، مؤلم، شاعري، جامح نحو الأمل، لكن الغريب أنه وهو الفائز بجائزة العالم الثالث فى مهرجان كارلو فيفارى عام 1974، واجه تعثرات كثيرة لعرضه، فى إطار ما أسماه الناقد الكبير سمير فريد، الثورة المضادة التى طالته مع أفلام أخرى مثل "العصفور" ليوسف شاهين، "التلاقى إخراج صبحى شفيق، فى فترة كانت السينما المختلفة مستهدفة كما يقول الناقد أمير العمري، الاستهداف هنا من أقلام كثيرة حاربت هذه الأفلام بحجة أنها تدعو للاستسلام وتشيع أجواء الياس والهزيمة، لذا كان من البديهى أن تخلق هذه الحالة حركة نقدية كبيرة، تدافع عن السينما والتجارب الجديدة، فظهرت جمعية نقاد السينما المصريين متولية ذلك الأمر.
لعل تلك المعركة الكبيرة التى دخلها غالب شعث مع ظهيره النقدي، هى ما جعلته يذهب بفيلمه لعرضه فى النادى السينمائى العربى ببيروت، لكنه هناك فوجيء بأن الموزع اللبنانى للفيلم حذف بعض المشاهد منه، مستعينًا بالمخرج المصرى حسام الدين مصطفى، كما ظهرت إعلانات الفيلم بدون البوستر الذى صممه حلمى التونى وبدون اسم المخرج.
صحيح أن تجربة غالب شعث مع هذا الفيلم كانت فى منتهى القسوة، وأنها أثرت عليه وغيرت إلى حد ما من مساره، لكنها لم تكسره، حيث واصل مشواره بأسلوب أخر، فالتحق بالإعلام الموحد فى منظمة التحرير، بقى فى بيروت وعمل فى مؤسسة صامد (معامل أبناء شهداء فلسطين)، ثم شارك فى تأسس مرحلة السينما الفلسطينية فى لبنان، يقول:" أصبح حلمى بدل أن أعمل فيلمًا، أن أصنع مؤسسة تنتج أفلامًا"، وبهذا الحماس تم إنتاج أفلام:" المفتاح، يوم الأرض، غصن الزيتون".
وهنا يبقى غالب شعث سينمائيًا بارزًا، وإن لم تحفل مسيرته بأفلام كثيرة، لكن لم يتخل عن شغفه بصناعة مسار سينمائي، من زاوية تعلقه الكامن بعالم الصورة ورغبة الاكتشاف، وقراءة الواقع والمشهد العام من دون بكائيات فجّة أو خطابية جوفاء.