ناهد صلاح

يا رايحين للنبي الغالي

الأربعاء، 06 يوليو 2022 04:07 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

بتدّفق لحني جميل وملفت، تقوده الدفوف ثم تمتزج معها الدفوف ويخالطها الصوت البشري يذكر "الله الله الله الله"، تعبر بنا ليلى مراد إلى ضفة أخرى من الطمأنينة والتصالح النفسي، بأغنية "يا رايحين للنبي الغالي" تأليف أبوالسعود الإبياري، وألحان رياض السنباطي، أشهر الأغنيات في وداع الحُجاج، هذه الأغنية التي ينغمس معها المستمع في حالتها الوجدانية، ويظل يذكرها كواحدة من الإشارات الدالة ضمن أحداث فيلم "ليلى بنت الأكابر" إخراج أنور وجدي في العام 1953، إنه بشكل أو آخر يلفته الإيقاع واللون النغمي، بقدر ما ينجذب إلى الكلمات وطويتها وما تحمله من دلالات روحية واشتياق وتلهف لزيارة النبي الغالي، ويندمج مع كل ذلك مشهدية الفيلم اللطيف الذي يتجاوز الطبقية في المجتمع، وينحاز ببساطة إلى قيم الإنسانية والعمل والحب.

تنهمر الدفوف بصخب إيقاعاتها المهلل، ويتماهى معها الناي فرحًا على غير عادته، فيدخل صوت المطربة متلطفُا، شغوفُا وراغبًا:"يا رايحين للنبى الغالى/ هنيالكم وعقبالى"، فترد عليها المجاميع:"الله الله الله الله"، لكي تؤكد الحالة بتآلف، حدده رياض السنباطي بمقام الـ"كرد" مقام الربع تون، مقام العاطفة والألم، وإن كان الألم هنا ينبع من الاشتياق للسفر، وليس من وجع الأحباء المألوف، إنه هنا تعبيرًا لوصف مشاعر وأحاسيس الصبابة والأمنية الجمعية، ومن هنا تصف الصورة في الفيلم بمشهدية زاهرة، الانسجام بين المطربة وبين الزفة التي جاءت لترافق الجد المسافر إلى الحج، بما يعطي صبغة شديدة الخصوصية للأغنية، حيث تتداخل الأجواء اللحنية في سرد التفاصيل، مصحوبة بالإيقاع الشعبي متمثلة بطقس الزفة والذكر، تتخلله صوت المطربة:" يا ريتني كنت وياكم، وأروح للهادي وازوره، وابوس من شوقي شباكه".

كلمات أبوالسعود الإبيارى تنساب وتثري هذه المشهدية بروحانياتها:"وقلبى يتملى بنوره/ وأحج وأطوف سبع مرات/ وألبى واشوف منى وعرفات/ واقول ربى كتبها لي"، ويتدله بها صوت ليلى مراد: "يا ريتني معاك في بيت الله وأزور وياك حبيب الله" بطبقة عميقة مشحونة بالعاطفة، تخففها ببهجة مستترة وهي تهنيء المسافر وتتمنى أن تحظى بفرصة مثله:"هنيالكم وعقبالى".

المثير أن هذه الكلمات منسوبة في تيتر الفيلم لشاعر آخر هو حسين السيد، لكنها موثقة في جمعية المؤلفين والملحنين للإبياري، لا أدري بالتحديد سبب هذا الخلط، لكن على صعيد آخر، تظل هذه الأغنية من مفجرات العاطفة والحنين، ليس بوصفها أغنية من أغاني المناسبات الدينية، إنما بما يعتريها من صدق ثلاثي الأبعاد: كلمات بسيطة وموحية، لحن ملهم وصوت متألق.

 ثمة أمر آخر مثير في هذه الأغنية، أنها خرجت من فيلم شهير في سلسلة الأفلام التي حملت اسم ليلى مراد، وقدمتها كأسطورة غنائية تزهو بحضورها الاستثنائي على الشاشة الكبيرة، ومع ذلك فإن الأغنية صارت أشهر من الفيلم ذاته، ربما لأنها لفتت الأنظار وتعلق بها الجميع، فكانت بمثابة القنديل الذي يُهدي المتفرج ويقوده بين تفاصيل الأحداث، ما يعني أنها رسمت بطريقتها الخاصة صورة رئيسية في الفيلم وموضوعه وانفعالات الشخصيات فيه، يمكن للجمهور أن يستمد منها المؤشر العام في صياغة الحكاية، كما يستشف إمكانياتها الدرامية، هذا من ناحية الكلمات أما من ناحية أخرى فإنها تُفضي أو تدلل على موسيقى الفيلم بشكل عام.

 من هنا، فإننا إذا استعدنا حكاية الفيلم الذي كتب له أيضًا السيناريو أبو السعود الإبياري بمشاركة مخرجه وبطله أنور وجدي، نجد دراميته تعتمد على أسس اجتماعية ونفسية حاسمة، وقائمة على نظرة أحادية تتغير مع تطور الأحداث، نتعرف عليها من خلال "ليلى" الفتاة اليتيمة الجميلة التي تعيش مع جدها في القصر الكبير، لكنها دون تعقيدات الخبرة المركونة على قواعد طبقية، جدها لا يسمح لها بالاختلاط بالأغراب، بالتالي حين تلتقي بأحدهم وتشعر بميل نحوه، فلا قواعد ولا تقاليد تمنعها من الزواج به، إنها تحب جدها وتحترمه، لكنها أيضًا ترغب في التواصل مع الآخرين، ولا تعتد كثيرًا بالفوارق الاجتماعية، طالما هناك الصدق والشرف والعاطفة.

ليلى حفيدة الباشا متحررة من الكليشيهات الاجتماعية، وليلى المطربة متحررة من الثقل الدرامي، كل شيء هنا يبدو عاديًا: الولع والحنين والرغبة، ينساب بسلاسة، يكاد السامع يراه مرسومًا في خياله بنفس القدر الذي تنقله حنجرة قوية، لها سطوة وقادرة على التلون في وقفاتها وقفلاتها، وتأرجحها بين فرح طفولي وتوق ناضج، لكل نبرة إنعكاس مرهف في آذان الجمهور، إنعكاس يولد من شاعرية الصوت وغنائيته، هذا غير أسلوبية اللحن المفعم بالتفاصيل الحميمة.

رياض السنباطي هنا يختلف عن كلثومياته ذائعة الصيت (أعماله مع أم كلثوم تشكل نصف ميراثه اللحني تقريبًا)، يتوغل في مناطق إبداعية أخرى مختلفة، مجددًا ومبتكرًا، يظهر ذلك بوضوح في أعماله مع ليلى مراد، لنراجع مثلًا "مين يشتري الورد"، " يارب تم الهنا"، أو مع أسمهان:" أيها النائم"، وحتى نجاح سلام:"عايز جواباتك" و "أنا النيل مقبرة للغزاة"، وتتسع القائمة لتضم نور الهدى، سعاد محمد، نجاة، فايزة أحمد، عبد الحليم حافظ، محمد عبد المطلب، عبد الغني السيد وغيرهم.

السنباطي الذي لعب بالموسيقى كمفكر بموازاته كمبدع، على ما يبدو كانت تستهويه لعبة التناقضات، بما احتوت من دلالات على تمكنه على التنقل بين الفخيم، الثقيل، إلى العادي واللطيف، الظروف، من مشاعر الحب العادية إلى المتأججة في الحب والأغاني الوطنية، إلى الروحانية في الأغاني الدينية كما نلمسها في أغنيتنا هذه "يا رايحين للنبي الغالي، وبالأسلوب المتوهج الذي يجعلنا نردد معه بشغف: "أمانة الفاتحة يا مسافر لـ مكة.../ هنيالك وعقبالى".

                                

 

 










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة