في مقدمة كتابه الصادر عام 2006، يقول الدكتور أيمن زهري: "شهد المجتمع المصري في مطلع القرن الحادي والعشرين العديد من التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي يحاول الكاتب رصدها في هذا الكتاب، ويعد هذا الكتاب محاولة للتواصل مع القارئ غير المتخصص، ويتطرق الدكتور "أيمن زهري" إلى معدلات نمو التليفون المحمول، حيث تزيد معدلات النمو بنسبة 35% سنويا مقابل 30% في الإمارات العربية المتحدة و23% في الصين، وعلى الرغم من حداثة عهد مصر بالمحمول والتي لم تزد على سبعة سنوات - آنذاك - إلا أنها تنمو بشكل سريع، حيث ارتفع عدد المشتركين من 654 ألف مشترك عام 1999 إلى أكثر من ستة ملايين مشترك في الوقت الحالي، وينفق المصريون 6 مليارات جنيه سنويا على الاتصالات عبر التليفون المحمول، ومن المتوقع أيضا أن يصل عدد مشتركي التليفون المحمول إلى عشرة ملايين مشترك مع دخول شركة ثالثة في مجال تقديم هذه الخدمات لترتفع جملة ما ينفقه المصريون إلى أكثر من عشرة مليارات جنيه".
أما عن محتوى الرسائل النصية التي تعرضها هذه القنوات فحدث ولا حرج، فهى خليط من أحلام النوم واليقظة، وكذلك مداعبة الخواطر والنزعات القومية والسياسية والكروية والعاطفية أيضا، وبغض النظر طبعا عن الاخطاء النحوية والإملائية، حتى القنوات ذات الصبغة الدينية تعتمد في تمويلها (جزئيا) على عائد هذه الرسائل القصيرة التي يغلب عليها الطابع الديني ويكون الحافز لإرسالها وإعادة إرسالها مرات ومرات هو الوازع الديني، فعندما تظهر رسالتك على الشاشة ويراها جمع غفير من المشاهدين لابد أن يكون ذلك في ميزان حسناتك بالإضافة إلى الميزانية العمومية لشركات المحمول والقنوات الفضائية.
كان ذلك قبل 16 عاما من الآن - وقت صدور الكتاب الكاشف لموبقات التكنولوجيا - قبل أن تزحف علينا (السوشيال ميديا) في هجومها الكاسح عبر أخبارها "الكاذبة"، المصطلح الأكثر لفتا للانتباه في عالم الميديا والإعلام الآن، فطبقا لدراسة علمية أنجزها باحثون أمريكيون حول ظاهرة انتشار الأخبار والمحتويات الزائفة عبر التغريدات على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، قام ثلاثة ملايين شخص بإعادة تغريد قصص إخبارية غير صحيحة أكثر من 4 ملايين مرة، واستند الباحثون في دراستهم، التي أشار إليها موقع "دويتشه فيله" الألماني، إلى تحليل مضمون حوالي 126 ألف تغريدة باللغة الإنجليزية، نشرت بين عامي 2006 و2017، وتعد هذه الدراسة التي أشرف عليها الباحثون في معهد "ماساتشوستس للتكنولوجيا"، ونشروها في مجلة "ساينس"، أكبر دراسة علمية تنجز حول انتشار الأخبار والمحتويات الزائفة عبر وسائل التواصل الاجتماعية.
وخلص الباحثون إلى أن المحتويات الزائفة، سواء كانت عبارة عن نص، أو فيديو، أو صورة، لديها فرص انتشار بنسبة تتجاوز 70% مقارنة بالحقيقية، في محاولة احتواء الأخبار الكاذبة، وفي محاولة لاحتواء انتشار مثل هذه الأخبار؛ نصت القوانين الصادرة حديثا في عدة دول عربية وأجنبية، على حظر نشر الأخبار الكاذبة عبر صفحات السوشيال ميديا، نموذجا لذلك: المادة (19) من مشروع قانون تنظيم الصحافة والإعلام المصري، التي تحظر على الصحيفة، أو الوسيلة الإعلامية، أو الموقع الإلكتروني، نشر أخبار كاذبة، وألزمت بأحكام هذه المادة صفحات الأفراد الشخصية على مواقع السوشيال ميديا، شرط أن يتجاوز عدد المتابعين 5 آلاف، وبحسب دراسة بعنوان "تطبيقات جديدة للحد من انتشار ظاهرة الأخبار الكاذبة"، نشرها مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أعلنت ألمانيا إخضاع مديري الصفحات المتورطة في نشر أخبار كاذبة للملاحقة القضائية، وكذلك مقاضاة إدارة الموقع، حيث وافقت الحكومة، في نيسان (أبريل) 2017، على مشروع قانون يعاقب شركات مواقع التواصل الاجتماعي لترويجها أخباراً كاذبة بغرامات تصل إلى 50 مليون يورو.
وفي غيبة من وعينا فإننا حتما لا ندرك خطورة الأخبار الكاذبة التي تروج لها (جماعة الإخوان الإرهابية) وغيرها من كيانات ومؤسسات غربية تحمل الشر لمصر، ولم يلفت نظنا أن الدراسة لفتت إلى إشارة وزير العدل الألماني هيكو ماس، في الأول (ديسمبر) 2016، إلى أهمية سن قانون ضد "خطاب الكراهية" والأخبار الكاذبة على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك، وهو ما دفع الموقع، في (يناير) 2017، إلى طرح تطبيق جديد في ألمانيا بهدف التأكد من صحة الأخبار المنشورة عليه، وهو ما حد من انتشار الظاهرة بعدما أفاق المسئولين الأمان لخطورة الأمر باتخاذ خطوات حاسمة.
وفي وقت سابق وتحديدا عام 2018، تمكنت حكومة رئيس الوزراء الماليزي السابق نجيب عبد الرزاق من تأمين تأييد غالبية بسيطة في البرلمان لتمرير مشروع قانون مكافحة الأخبار الكاذبة، الذي يفرض غرامات تصل إلى 500 ألف رانجيت، حوالي 123 ألف دولار، وأحكاما بالسجن لستة أعوام كحد أقصى، وأشارت الإعلامية نشوى الرويني، خلال إحدى الجلسات، ضمن منتدى الإعلام العربي بدبي - قبل بضع سنوات من الآن - التي حملت عنوان "بروز الوهمي وسقوط الموثوق"، إلى شروع بعض الدول، وفي مقدمتهم دولة الإمارات العربية المتحدة، في سن تشريعات لمكافحة ظاهرة الأخبار الملفقة، واستشهدت بأمثلة من العالم؛ حيث طالبت القيادات الإعلامية في إنجلترا مجلس العموم البريطاني بالتصدي لتلك الظاهرة، وفي فرنسا قالت وزيرة الثقافة الفرنسية فرانسواز نيسن: إنه سيتم اتخاذ إجراء قضائي لوقف نشر الأخبار المزيفة، مشيرة إلى عمل بلدان أخرى، مثل؛ الفلبين وألمانيا والبرازيل وماليزيا، على محاربة تلك الظاهرة من خلال إطار قانون يحكمها ويعاقب مروجيها.
ربما تكون الأخبار الكاذبة ليست وليدة العصر الحالي، في ظل ظهور مصطلح "الباسكواندي"، الذي يعد أقرب نموذج تاريخي لعمل يقترب من شكل الصحافة كما نعرفها اليوم لجهة دورها نشر الأخبار الكاذبة تحديدا، "ففي إطار أجواء الانتخابات البابوية عام 1522، طفق الشاعر بييترو أريتانيو يكتب قصاصات فيها "سونيتات" لاذعة، بحق كل المرشحين باستثناء أولئك الذين كان يدعمهم آل مديشي، أولياء نعمته، ويعلقها على نصب تمثال نصفي يعرف بـ "الباسكوينو"، بالقرب من ساحة نافونا في روما، ومنها اشتق اسم "الباسكوندي" لاحقاً، ليصف ظاهرة توسعت في انتشارها تلك الأيام تتركز حول قصاصات مكتوبة باليد تحمل أخبارا شائنة، أكثرها كاذبة، ضد الشخصيات المعروفة".
ولعلي هنا أشير إلى أن الأرقام والدراسات تقول: إن الشبكة العنكبوتية عبر منصاتها غير الخبرية في الأصل هى المصدر الرئيس لفئة الشباب لاستقاء الأخبار والتعليق عليها، بالتالي تكوين مواقفهم وتسيير توجهاتهم، ففي مصر، أشارت إحصائية حديثة صادرة عن المركز المصري لبحوث الرأي العام "بصيرة"، إلى أن "65% من الشباب المصريين المتراوحة أعمارهم بين 18 و35 عاماً، لا يقرؤون الصحف الورقية، و28% يقرؤونها أحياناً، و7% فقط يقرؤونها دائما".
وبحسب دراسة صدرت عن مجلس الإمارات للشباب، عنوانها "مصادر أخبار الشباب" فإن مواقع التواصل الاجتماعي في الإمارات جاءت في المرتبة الأولى بنسبة 42%، ثم القنوات التلفزيونية بنسبة 23%، وجاءت الإذاعة في المرتبة الأخيرة بنسبة 4% فقط"، كما أوضحت الدراسة أن "غالبية الشباب تتردد على مواقع التواصل الاجتماعي لنحو خمس ساعات يوميا، وحال الشباب في بقية الدول العربية ومصادر المعرفة والأخبار لا تختلف كثيرا عن مصر والإمارات؛ حيث الـ "فيسبوك" يسود، و"تويتر" يهيمن، و"غوغل" هو السيد".
الأخبار الكاذبة يا سادة تعد الآن أكثر من أي وقت مضى "آفة هذا العصر"، فهذه الأخبار لها الأثر الجانبي الأسوأ والأكثر تأثيرا في مسألة الانتشار الإلكتروني على منصات التواصل الاجتماعي"، والكارثة أنه يصعب السيطرة على انتشار مثل تلك النوعية من الأخبار حتى في الدول الكبيرة التي قدمت قوانين سعيا للسيطرة على تلك الأخبار، غير أن المسألة ليست بتلك السهولة، فـ "في النهاية يمكن في هذا الفضاء الإلكتروني مع بعض مهارات المستخدم البسيطة أن يلتف على هذه القوانين".
صحيح أن القاهرة تحاول دراسة تجارب الدول الكبرى في مواجهة مثل تلك النوعية من الإشاعات؛ حيث إن المسألة ليست حديثة، "منذ بدايات الصحافة كان الصحفيون الكبار في مصر والعالم يتحدثون عن الخبر المثير والكاذب أنه الأكثر انتشارا، وإن كان أقل قديما عن المرحلة الحالية"، لكن يبقى الانتباه إلى أن جماعة الإخوان والكيانات المتطرفة هى الأكثر اهتماما بهذه الساحة، من خلال استخدام تلك المنصات لتشويه المجتمعات وتجنيد العناصر المتطرفة، فمنذ سنوات قليلة انتهت مسألة تجنيد الأشخاص من المساجد وأصبحت عمليات التجنيد تتم داخل غرف الشات المغلقة، ودعونا نعترف بأن بانتشار مجموعة من المواضيع غير الحقيقية، على السوشيال ميديا التي أكلت الأخضر واليابس بعد أن غدت تتعدى الكذب إلى نشر موضوعات وحقائق وأفكار أو أخبار منقوصة أو غير كاملة في شكل سمومو قاتلة.
لقد أصبحت السوشيال ميديا ساحة تحظى بقدر من الفوضى والعشوائية الآكلة للحقيقية، تستغل ضعف الصحف الورقية وحتى الإلكترونية الحالية ما أدى هذا الانتشار الكبير لمواقع السوشيال ميديا - وبخاصة مع ظهور أجيال من الهواتف الذكية وأجهزة الحاسب اللوحية - إلى سهولة الدخول على هذه المواقع، كما أن هذه الأجهزة سهلة الحمل والتنقل مع صاحبها بصورة متواصلة وبشكل شبه دائم، وتكمن خطورة الأمر في ظهور أجيال من الأطفال والشباب تقضي معظم اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي والفضاء الإلكتروني، لدرجة أنهم لا يستطيعون البعد والتخلي عن هذه المواقع لبضع دقائق، مما كان له مردود سيئ للغاية على هذه الأجيال، بل يصل الأمر إلى تدمير الحياة الواقعية للكثير من هؤلاء المدمنين، تشمل الآثار النفسية والاجتماعية الانسحاب من الحياة الاجتماعية، وغياب الرقابة الأبوية، بسبب صعوبة مراقبة الأبناء طول الوقت عبر ما يستخدمونه من شاشات.
وظني أن الحل الأمثل لمواجهة هذه الظاهرة يأتي على مستويين "الأول تدشين القوانين، وهى مسألة قديمة، فجميع القوانين المنظمة للعمل الصحفي تؤكد ضرورة عدم نشر الأخبار غير الحقيقية، أما المستوى الثاني فهو التعليم، أو ما نستطيع أن نطلق عليه مصطلح التربية الإعلامية؛ أي أن نربي أجيال قادرة على فرز الغث من السمين، وهى مسألة تحتاج لنظام تعليم جيد يسمح بالحق في الحصول على المعلومة بداية، كما يسمح بالحق في التفكير وليس الحفظ والصم؛ لأننا عندما نربي الطلبة على إبداء الرأي يتولد لديهم ما يسمى الذهنية النقدية التي لن تسمح بقبول أية أخبار ناقصة أو غير حقيقية، لأن العقل سيناقشها ويرفضها.
وأخير لابد أن ننتبه إلى خطورة أن يتولد لدى مستخدمي السوشيال ميديا شعور بالإدمان على الأخبار الكاذبة خاصة أنه تغيب لغة الحوار بينه وبين الآخرين، وفي أحيان كثيرة فإن الأمر يتطور لشجار بينه وبين أصدقائه المقربين وأفراد عائلته، ويرجع الباحثون الإصابة بإدمان مواقع التواصل الاجتماعي إلى أن دماغ المدمن تفرز كمية صغيرة من الدوبامين، وهو الهرمون المسؤول عن السعادة والرضا، عندما يصله إشعار من أحد حساباته على هذه المواقع، ومع كل إشعار يصل المدمن فإن دماغه يصبح متحمسا، ويتكرر الأمر بمرور الوقت، وهو ما يترتب عليه أن الشخص ينتظر هذه الإشعارات من أجل أن يحصل على هذا القدر من السعادة، وهى بالتأكيد سعادة مزيفة لا تفضي إلا لمزيد من التشتت المعرفي المقصود به شبابنا حتى يقع في براثن الفوضى التي أصبحت بمثابة أسلحة تدمر شامل تضربنا في مقتل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة