كثيرة هى الشخصيات البارزة فى حياتنا المصرية، والتى ينبغى أن نسلط عليها أضواء كاشفة كى تتعلم منها الأجيال كيفية توظيف العلم فى خدمة المجتمع، لذا أعجبنى جدا حرص (اليوم السابع) فى بابها (تحقيقات وملفات) على إعادة حكايات تلك الرموز وتاريخها المضىء، وفى إطار حرص الدولة وتوجهها بإحياء الهوية المصرية ورموزها، حفاظا على تاريخنا العريق وللاستفادة من تلك القصص الملهمة، وتقديم القدوة الحسنة للشباب والأجيال القادمة، وذلك من خلال تناول (بروفايل) لأبرز الشخصيات المتميزة فى مصر، أسبوعيا على صفحات (اليوم السابع)، يتم التركيز فيه على شخصيات ورموز مصرية كانت وما زالت مؤثرة، ولها صيت كبير، سواء على المستوى المحلى أو العربى والعالمى، أثرت وتؤثر فينا، فى مجالات كثيرة ومتنوعة سواء فنية أو علمية أو دينية أو اقتصادية أو سياسية وغيرها الكثير والكثير.
وبأسلوب يجمع بين الرشاقة والحس الوطنى والإنسانى راحت (اليوم السابع) تبحر فى سفينة الإبداع فى الكتابة من خلال عرض سيرة واحدة من العظيمات اللاتى ضربن أروع الأمثلة فى خدمة الإنسانية، واسمها (عزيزة سيد شكرى دحروج) من مواليد 1919 - أى فى السنة التى اشتعلت فيها أحداث ثورة 19 - فى قرية (ميت يعيش) التابعة لمدينة (ميت غمر) بمحافظة الدقهلية وسماها والدها طبيب النساء والولادة الدكتور سيد شكرى، باسم جدتها لأبيها الحاجة عزيزة، وتمسك والدها بتعليمها رغم الظروف الصعبة والتحديات التى واجهت الأم التى أصيبت بمرض الزهايمر ولم تعد قادرة على رعاية أطفالها الخمسة، عزيزة وعصمت ومحمد وحسين وليلى، وهنا تعلمت عزيزة التى لم تكد تبلغ العاشرة من عمرها الدرس الأول من والدها الذى وقف إلى جوار زوجته وتفانيه رغم انشغاله بعمله وبأطفاله فى توفير سبل الراحة والعلاج لها، فتحملت المسؤولية فى سن مبكرة، فصارت الأم الصغيرة لأربعة أشقاء منهم حسين الذى ولد مصابا بالصمم مما زاد من المسؤولية على الأم الصغيرة... عزيزة.
وحرصا على إرساء مفاهيم القدوة والانتماء ذهب المحرر الذى صاغ قصة (عزيزة دحروج) يكتب بحروف زادها الكشف عن الجواهر فى حياة المصرين، حيث قال: هى السفيرة عزيزة .. مين يعرفها؟ .. هل هى ست الحسن والجمال فى الحكايات الشعبية القديمة؟.. من أين جاءت التسمية؟ .. وماذا عن علاقة سيرتها بالفيلم الشهير؟.
وأردف الكاتب الصديق عادل السنهورى قائلا: كل من ألقيت عليهم السؤال عن (السفيرة عزيزة) من الشباب والكبار فى استطلاع سريع يذهبون إلى سندريلا السينما المصرية (سعاد حسنى) وفيلمها الشهير (السفيرة عزيزة)، والذى لعبت بطولته أمام (شكرى سرحان وعدلى كاسب وعبدالمنعم إبراهيم ووداد حمدى) من إخراج (طلبة رضوان) وتم عرضه لأول مرة عام 61، والفيلم ليست له علاقة بالقصة الحقيقية سوى الاسم فقط وربما -حسب مؤرخين للسينما وعلم الاجتماع - أن منتجى الفيلم استغلوا اسم (السفيرة عزيزة) للترويج للفيلم وجذب أكبر عدد من الجمهور ورواد السينما.
إلى هذا الحد بلغ المحرر غاية سامية عندما كتب عن السفيرة عزيزة - الحقيقية - التى بلغت كثيرا من الشهرة حتى استغلت السينما شهرتها، وأنتجت فيلما باسمها، وفاقت حدود الشهرة حتى أصبحت مضربا للأمثال بين المصريين فى مجتمع المرأة المصرية والعربية للفتاة التى تدعى التفوق والتميز وتتباهى وتتفاخر بعلمها بالقول: (انتى ها تعملى فيها السفيرة عزيزة)، وتسببت فى انتشار اسم (عزيزة) فى مصر والعالم العربى خلال فترة الخمسينيات والستينيات على عدد كبير من مواليد تلك الفترة من الفتيات.
ولأن قصة (السفيرة عزيزة) تستحق أن تروى وتدرس وتتحول إلى دراما شاملة فى السينما والمسرح والتليفزيون لإنعاش الذاكرة المصرية بقصص وحكايات العطاء والتضحية والبذل لسيدات وفتيات مصر حتى يعرفها ويعرف قصة كفاحها وتفوقها كامرأة مصرية نالت حقوقها السياسية والاجتماعية، وبلغت أعلى المناصب، وأصبحت وزيرة وقبلها بسنوات أصبحت سفيرة، وكان لها التأثير الفاعل فى المجتمع، بل وصارت مضربا للأمثال فى التباهى والتفاخر، لذا آثرت إعادة كتابة قصة (السفيرة عزيزة) على كتابة (اليوم السابع) للتأكيد على أن مصر ولادة بالعظماء الذين كان لهم أكبر الأثر فى حياتنا المعاصرة.
ويسعدنى أن أن أعيد سرد السيرة الذاتية عن (عزيزة) لاتخاذ العبر والمثل العليا، فهى واحدة من الماجدات المصريات والنموذج المشرق والمبهر للمرأة المصرية مع بداية عصر التحرر والنهضة فى بدايات القرن العشرين التى انتفضت ونفضت عن عقلها ووجدانها ميراث التخلف والرجعية الفكرية وخرجت وكافحت من أجل استقلال وطنها ثم استقلالها وتحقق لها ما أرادت، وخاصة أنها تعلمت الدرس الأول فى العطاء والتضحية وتحمل المسؤولية الذى من الأب، الذى غرس فى نفسها قيمة بذل الجهد والعطاء فى البيت والاجتهاد فى الدراسة، فقد واصلت دراستها بتشجيع من الأب فى عشرينات القرن الماضى حتى تخرجت من مدرسة (الأم المقدسة)، بعد قضاء سنوات الدراسة الخمس ملتزمة بمناهجها المعتمدة على اللغة الفرنسية دون غيرها، ثم تلتحق بعد ذلك بالجامعة الأمريكية وكانت سيطرة اللغة الإنجليزية على مناهجها، هى العقبة التى كادت تفسد سعادة (عزيزة) بالدراسة بها، فظلت تتنقل من فصل إلى آخر متسلحة بروح (التحدى) وقضت الليالى ساهرة على كتب تعلم اللغة حتى أتقنتها مثل أهلها فى بريطانيا.
الدرس القيم الذى يمكن أن نستخرجه فى حياة (عزيزة)، أنه لم يغب عن بالها طوال الوقت، المعركة التى خاضها والدها، وشجاعته فى مواجهة الاعتراضات التى واجهها لتعليم بناته الثلاث اللاتى أصبحن الطالبات المصريات الوحيدات اللاتى التحقن بالتعليم المختلط فى الجامعة الأمريكية هو ما زادها فخرا بأبيها التى قالت عنه فى كتابها (حج الروح): (أبويا هو السبب فى دخولى الكلية، وكان عنده فكرة مهمة عن المرأة ودورها، لدرجة أنه كان بيزعل جدا من فكرة سيطرة المجتمع الذكورى عليها، وكان مناصرا للمرأة من الطراز الأول).
تخرجت عزيزة من الكلية الأمريكية عام 1942 وجذبها العمل الاجتماعى وتطوعت للعمل فى الجمعيات الخيرية، وبدأت من نادى سيدات القاهرة محطتها الأهم فى العمل الاجتماعى وتعلمت كيفية إدارة جماعة ودراسة احتياجات المجتمع على خلاف باقى الجمعيات التى كانت قائمة على جمع التبرعات، وتقديمها للمحتاجين، ولا ننسى أن كل ذلك قبل قيام ثورة 23 يوليو 52 وانحيازها للمرة اجتماعيا وسياسيا.
فى عام 45 تزوجت عزيزة دحروج - أو بالأحرى عزيزة هانم - من أحمد بك حسين، وهو أول سفير لمصر فى الولايات المتحدة الأمريكية عقب ثورة يوليو، كان شخصية لامعة فى مجال العمل التعاونى والمجتمعى واعتبرته عزيزة أستاذا لها.. وكان هو النموذج المبهر الثانى فى حياتها بعد الأب، بعدها بأعوام قليلة وقبل قيام ثورة يوليو بعام واحد بدأت الانطلاقة الكبرى للزوجين، ووضع أحمد بك حسين - الزوج - اللبنة الأولى لوزارة الشؤون الاجتماعية فى مصر من خلال جمعيته التى أطلق عليها (مصلحة الفلاح)، وانطلقت عزيزة بدعم زوجها للعمل فى الريف مع الفلاحات للتعرف إلى مشاكلهن ومساعدتهن وأسست أول دار حضانة فى قرية (سنديون) بالقليوبية وهى أول حضانة فى الريف المصرى للاهتمام بالأطفال وتحسين صحتهم ورعايتهم وانتشرت الفكرة فى عدد كبير من القرى بفضل السفيرة عزيزة.
ومن هنا وبفضل جهود زوجها وأستاذها ومعلمها، كان حريا بعزيزة أن تحصل على لقب السفير بصفتها خبيرة اجتماعية، وكأول سيدة من المنطقة العربية تجوب الولايات المتحدة الأمريكية ودول العالم لإلقاء محاضرات عن العمل الاجتماعى بصفتها الدولية، فقد سافرت عزيزة بمفردها لإلقاء محاضرات عن التنمية البشرية والعمل الاجتماعى فى حوالى 40 ولاية أمريكية وحققت شهرة واسعة.. وتحدثت الصحافة الأميركية والعالمية عن (السفيرة عزيزة) أول مصرية وعربية فى العمل الاجتماعى.
وفى أثناء جولتها هناك، قامت ثورة يوليو وفرحت بها السفيرة عزيزة وعبرت عن سعادتها بها خاصة فى ظل حديث الصحافة الأمريكية عن الصورة السلبية للملك (فاروق) كحاكم فاسد غارق فى نزوات، وهو ما تسبب فى إحراج شديد لها كلما سئلت عنه فى وسائل الإعلام، فجاءت يوليو 52 بمثابة ثورة الإنقاذ لها، ولعل حماس (السفيرة عزيزة) لثورة يوليو ومبادئها ظهر فيما بعد أكثر وأكثر عندما قدمت محاضرة بإحدى كليات (بيتسبرج بولاية بنسلفانيا) حول التغييرات فى مصر، وتحدثت بطريقة إيجابية جدا، وأكدت أنها متفائلة بشأن المستقبل، وقناعتها بتغيير الأوضاع الاجتماعية فى البلاد، وإن ما تطرحه الثورة لإصلاح قانون الأراضى الزراعية ، والبحث عن حل لمشاكل الضرائب التصاعدية، وإنشاء التعاونيات الزراعية، ومشاريع الإسكان، وزيادة أجور العمال الزراعيين يتماشى مع ما تؤمن به ويحقق ما تعمل من أجله.
الغريب فى الأمر أنه فى اليوم التالى نشرت الصحف الأمريكية تفاصيل المحاضرة، وأرسل رئيس مجلس الكلية الأمريكية برقية للرئيس محمد نجيب يؤكد له فيه أن (السفيرة عزيزة هانم دحروج) نجحت فى تمثيل مصر بامتياز وقدمت صورة وافية وراقية عن بلدها، وفى أكتوبر 1952 كانت نجاحات الزوجين تسبق وصولهما إلى القاهرة، هو ما دعا الرئيس جمال عبدالناصر لترشيح أحمد حسين لتولى منصب وزير الشؤون الاجتماعية، وتوسط لإقناعه وزير الأوقاف وقتها الشيخ أحمد حسن الباقورى والكاتبان مصطفى وعلى أمين، لكنه اعتذر.
الاعتذار لم يؤثر مطلقا على ثقة (ناصر) بأنه أمام رجل تحتاجه مصر فى تلك الفترة.. ولهذا طلب منه المساعدة فى حث الولايات المتحدة على لعب دور فى الضغط على بريطانيا للحصول على التزامها بالانسحاب من منطقة قناة السويس عام 54، وبالفعل نجح أحمد حسين وقتها فى ترتيب لقاء بين (ناصر) والسفير الأمريكى فى القاهرة، وكانت نتائج الاجتماع الإيجابية، السبب الرئيسى أن يخرج منه الزعيم المصرى بإصرار أن الأفضل فى تلك المرحلة الحساسة بالذات لتولى منصب سفير مصر بالولايات المتحدة الأمريكية.
فى عام 1954 عينت (عزيزة) فى لجنة المرأة بوفد مصر فى الأمم المتحدة، مما جعلها أول امرأة عربية ومصرية تتولى المنصب رسميا فى أول تمثيل لبلدها عقب الثورة، وهى الفترة التى شهدت طرحها لفكرتها التى أبهرت بها العالم كله، وهى (تنظيم الأسرة)، وتناولت الممارسات الضارة ضد المرأة، وأوضحت أمام جلسة الأمم المتحدة أن الدين يرفض مثل هذه الممارسات، وطرحت فكرة تنظيم الأسرة، وأثار ذلك دهشة المشاركين واعتبروه شجاعة لأنها فجرت قنبلة، فكثير من الدول المتقدمة خشيت عرض الموضوع، لذلك رشحوها لتكون عضوا بلجنة المرأة بمنظمة الأمم المتحدة التى ظللت بها لمدة 17 سنة، وبعد عامين قررت الأمم المتحدة إدراج تنظيم الأسرة على جدول أعمالها لأنهم تأكدوا أن له علاقة بالمرأة.
أجمل ما فى قصة (عزيزة)، أن الزعيم جمال عبدالناصر كان فخورا بـ (السفيرة عزيزة) ويتابع نشاطها ومجهوداتها الدولية باسم مصر وقال: (أتمنى أن تكبر بناتى ليصبحن مثل عزيزة)، ويظل الأجمل والأجمل أن تستلهم (اليوم السابع) الدروس والعبر فى سيرة ومسيرة سيدة تركت لنا أثرا يمكن أن تتعلم وتستفاد منها أجيال وأجيال وتعرف قصة امرأة استثنائية، لعبت دورا وطنيا بارزا فى تاريخ وطنها وأمتها، وخاصة أن الدولة حاليا مشغولة بقضية تنظيم الأسرة فى سبيل تفادى الانفجار السكانى الذى يمكن أن يأكل الأخضر واليابس مهما بلغت جهولة الدولة فى التنمية رغم تسارع عجلتها مع الزمن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة