" لا تجعل ثيابك أغلى شئ فيك حتى لا تجد نفسك يوماً أرخص مما ترتدي".
وعن الفضيلة الأخلاقية التي نتناولها بمقال اليوم (الكرامة) فهي بحق ذات قيمة كبيرة، حيث يشعر الإنسان بعزته و كبريائه حين يحفظها ويضعها دائماً وأبدأ نصب عينيه، ويشعر بذلته ومهانته عندما يتنازل عنها وينحيها جانباً.
ويقصد بالكرامة احترام المرء لذاته، فشعوره بالشّرف والقيمة الشخصيّة يجعله يتأثّر ويتألّم إذا ما انتقص قَدْره، كما أنها مبدأ أخلاقيّ يُقرِّر أنّ الإنسان ينبغي أن يعامل على أنّه غاية في حد ذاته لا وسيلة، وكرامته كإنسان فوق كلِّ اعتبار .
وعموما فكرامة الإنسان مرتبطة باحترام احتياجاته النابعة من طبيعته البشرية، كما أنها مرتبطة أيضا بالتحرر من الخوف ومن الحاجة.
و(الكريم) من أسماء المولى عزّ وجلّ وصفاته: قال الغزاليّ: الكريم: "هو الّذي إذا قدر عفا، وإذا وعد وفّى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرّجاء، ولا يبالي كم أعطى، ولا من أعطى، وإن رفعت حاجة إلى غيره لا يرضى، وإذا جفي عاتب وما استقصى، ولا يضيع من لاذ به والتجأ، ويغنيه عن الوسائل والشّفعاء، فمن اجتمع له جميع ذلك لا بالتكلّف فهو الكريم المطلق وذلك هو اللّه تعالى، فقط".
وقد كرّم اللّه الإنسان بتفضيله على كثير من خلقه فقال تعالى:
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا. الإسراء/ 70.
"إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون" (الواقعة /٧٧-٧٨)
"إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ". (الحجرات/ 13)
إذ أن الله تعالى كرم الإنسان وفضله علي سائر مخلوقاته، واختصه بالعقل والحكمة والكرامة وعزة النفس.
ففي تراثنا كما قال "زهير بن أبي سلمى" في معلقته من الشعر الجاهلي:
"ومَنْ لا يُكَرِّمْ نفْسَه لا يُكَرَّم ".
والسؤال هنا كيف يكرم الإنسان نفسه؟
أولاً: لا كرامة للإنسان بغير علم ومعرفة.
ولاِسْتيعاب الإنسان للعلوم وتعلُّمِها وتعليمها، أودَع فيه اللهُ - تعالى - بعض مفاتيح المعرفة (التفكُّر، النَّظر، العقل، البصر، القلب، اللُّب...).
قال سبحانه: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ ﴾ [الأعراف: 185].
﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ﴾. [الحج: 46].
﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾. آل عمران:7]
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]،
فلابد للإنسان من احترام عقله الذي من الله عليه به والحرص على التعلم والمعرفة والتدبر والتأمل، فكلما ازداد علم الإنسان واتسعت مداركه و تحرر عقله، ازدادت ثقته بنفسه وعلت كرامته وكان أكثر حرصاً على حفظها وصونها، إذ أنه بعلمه الغزير بات ممتلئا مستغنيا واثقا غير مشوش أو مهزوز أو خجلان من نقيصة أو جهل يريد إخفائه.
وصاحب الكرامة لا يتنازل عنها أو عن جزءٍ منها، إذ أنها لا تتجزأ لأي سبب أو مقابل أي شيء، فإن كانت حاجته وغرضه أولى وأهم من حفظ كرامته، فلا كرامة له ولن تغنيه حاجته التي حصل عليها ولن تعلي من قدره ولن تجبر الآخرين على احترامه وتقديره، و إن كان يملك كنوز الأرض.
ثانياً: العفة أساس الكرامة:
ومن تكريم الإنسان لنفسه صونها عن ذلّ سؤال الخلق، بالسعي والرضى بما قسم اللّه له من الرّزق الحلال، فإذا سعى واجتهد ورزق ما قدّر اللّه له أصبحت نفسه عزيزة بإيمانها، قويّة بعزّتها، لا تغرّها الدّنيا ولا يعميها الطّمع فعبد الشهوة لا كرامة له بل هو أذل من عبد الرق كما يقال، لأنه قد يرتكب من الأفعال الشنيعة ما يستحيي منه هو نفسه عند صحوة ضميره، ويشعر بالذل أمام نفسه قبل أن يشعر به أمام الآخرين.
ألا نتذكر الحياء والتعفف في القرآن الكريم، والفقراء الذين يُعرفون بسيماهم ولا يسألون الناس إلحافاً، تحسبهم أغنياء من التعفف. فلا كرامة مع الفقر، ولا حياء مع الحاجة.
فعلي سبيل المثال: في الأعياد والمناسبات نسمع بكثرة جملة "كل سنة وأنت طيب"، "الله يعود عليكم الأيام بالخير"، من كل اتجاه، فشعب مصر ليس شعب من الفقراء الذي يمد البعض منه اليد للسؤال بدلا من أن يمدها بالفأس للزراعة في الحقل، أو بالمفتاح للإنتاج في المصنع، أو بالبحث عن عمل شريف و إن كان بأجرٍ زهيد قد يبارك به الله ويضاعفه ويغنيه عن سؤال اللئيم، وفوق كل هذا وذاك يحفظ به كرامته ويعز نفسه ويكرمها كما كرمها المولى عز و جل بعد أن خلقه و لم يكن شيئا.
فلم يتسارع الشباب في البحث عن أي فرصة للفرار خارج البلاد بحجة العمل الغير متوفر واستجداء سفارات الدول بكل وسيلة للحصول على تأشيرات الدخول والتضحية بالحياة نفسها، وربما الموت غرقاً في بعض الأحيان عند اتخاذ قرار الهجرة الغير شرعية لدول ترفض منح تأشيرات الدخول لأراضيها !
ناهيك عن كم الإهانات التي قد يواجهها هذا الذي خلع كرامته على أبواب الغرباء، وقرر أن يتحمل كافة أشكال التعنت والرفض والتعالي من أجل حفنة من المال زائلة!
فكم من رجال قضوا أجمل سنوات العمر وزهرة شبابه يعملون بغير أراضيهم أملاً في عودة كريمة تعوض ما ضاع من العمر، و لكنه عادة ما لا يحدث، فسرعان ما تسرح تلك الدول عمالة الوافدين فجأة و دون مقدمات ليعودوا بعد انقضاء العمر لبلادهم التي لا تغلق أبوابها بوجوههم أبداً صفر اليدين فاقدي الهيبة والكرامة، تلك التي لا تشتريها ولا تعوضها كنوز الأرض.
إذن: فالتعفف والترفع عن الذلة والمهانة مقابل الحاجة و إن كانت ملحة هو أهم سبل حفظ كرامة الإنسان التي إن فقدها وتنازل عنها لأجل أي شيء ماتت روحه وعاش جسد بلا روح يمشي على الأرض.
• في نهج البلاغة يقول الإمام عليه السلام لأصحابه:
"فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين"
إذ أن للعزة والسيادة قدراً وقيمة عظمى بحيث لا يمكن أن يتخلى عنها في الحياة، فإن تحققت العزة فلا يهم أن يتحرك جسم الإنسان على هذه الأرض أم لا، وان لم تكن فالحركة والحياة على وجه الأرض موت.
• وكان شعار سيد الشهداء المعروف في يوم عاشوراء هو: "الموت أولى من ركوب العار"
"موت في عزّ خير من حياة في ذل"
نهاية أعزائي :
فماذا يبقي إذن للإنسان إن فقد كرامته أو خلعها علي أبواب شهواته و رغباته و حاجاته أياً كانت أهميتها و قيمتها ؟ فقد كرم الكريم الإنسان ومنحه شرف الكرامة واختصه بنعم كثيرة لم يختص بها أحداً من سائر مخلوقاته، فهل يحفظها هذا الإنسان ويقدر قيمتها ويترفع عن كل ما يسلبه إياها، فعندما يصون المرء كرامته فهو يعلن شكره وامتنانه لله الكريم، فقد أخرج الله إبليس من رحمته وحرم عليه جنته لأنه لم يعترف للإنسان بالكرامة.
وخير ختام لمقال اليوم عن فضيلة الكرامة، كلمات النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه إذ قال: «إطلبوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجرى بمقادير».
وإلى لقاء مع فضيلة أخلاقية جديدة من مكارم الأخلاق.