لقد كنت في المراحل الأولى في دراستي الابتدائية، لم أكن أهوى سوى المواد النظرية، ولكن كان يتم تعليمنا بأن هناك علوما واتجاهات أخرى جديرة بالاهتمام، الأمر الذي لم يلق اهتمامي وقتها، ولكنني كنت مضطرة للتجاوب، معها لأنها تعطي دراجات أفضل، وكانت هي اللحظات الأولى في الجانب العملي في الدراسة.
حصة صغيرة نتعلم فيها العلوم، هكذا كان اسمها وقتئذ، كنا نتعلم عن فوائد المغناطيس وطبيعة الكائنات، تفاصيل عن النبات بداية من تكوين الخلية حتى تكاثرهم، ولكن كان الجزء العملي الأكبر هو النشاط الفردي، المتمثل في قليل من الحلبة، وزراعة حبوب نباتية في نشاط عملي للزراعة، كان طلاب الفصل وقتها يجتمع في تلك الحصة، ومعهم نباتات الحلبة الصغيرة، وهي تتفتح لتصنع وريقات صغيرة، في الحقيقة لم ألق بالاً لها كثيراً وقتها، إلا إنها أثرت بي في الاهتمام بنبته صغيرة ومشاهدتها وهي تكبر يوماً بعد يوم.
على الرغم من فرحي الشديد بتلك النبتة، إلا أن سريعاً ما حزنت عليها، وهي تذبل وتموت، ولا أعرف السبب! فأنا اعتني بها يومياً، وأهتم بوضعها في الشمس كما تعملنا من الأستاذة في الفصل، بل كان أول ما اقوم به صباحاً هو الدخول للشرفة للاطمئنان عليها، لم ينجح مسعاي في جعلها شجرة كبيرة، ولكنني حاولت بعدها مراراً وتكراراً، مرة بالحلبة الصغيرة ومرة بالفول ومرة كانت تقريباً ناجحة حيث زرعت بصلة، ولم أكن أعرف وقتها المبادئ الصحيحة للزراعة، ولكنها كانت بداية.
كانت بداية اهتمامي بالنباتات عموماً، محاولة تزيين الشرفة بشكل طبيعي لإعطائها منظرا طبيعيا خلابا، يسر نظر الآخرين قبل مني، زرعت نبات الصبار، وحاولت زرع اللبلاب، والليمون وغيرها العديد والعديد، فبالنسبة لجيل الثمانينات كانت حصة العلوم مليئة بالتجارب المبهرة التي نود تجربتها جميعها ونشاهد نتائجها بكل فخر، فقط من أجل الزينة والتباهي.
زاد تعلقي بالزراعة حتى أصبحت أقرأ وأتعلم في المدرسة حول البيئة، وكون النباتات جزء لا يتجزء من النظام البيئي، وكيف أن النباتات هي ما تمدنا بالاكسجين اللازم للتنفس، وايضاً تعمل على تلطيف الاجواء في الاوقات الحارة، حتى اكتشفت بأن هناك من يزرع في المنزل للحصول على الخضراوات طازجة وطبيعية بأكثر شكل صحي ممكن، مثل أمي التي كانت هوايتها زراعة النعناع والريحان الذي كان يجعل نسمة الهواء تأتي من الشرفة معبقة برحيق هادئ صحي، تعملت الكثير والكثير.
ولكن كل ما تعلمته اختلف تماماً في أخر عقدين، فبعد ان كان الحديث عن البيئة محض ترف للبعض، إلا إنه تحول لضرورة ملحة، ومحور اهتمام عالمي، يتمثل في قطاعات كبيرة كالطاقة واستخدام أدوات قابلة للتدوير، والابتعاد عن المخلفات التي يصعب تحللها في البيئة وتؤذيها بأسوء شكل ممكن، هذه الأتجاهات كلها لفتت نظري ولكنها ذكرتني بالفسيلة الصغيرة التي ربيتها لاول مرة في حياتي.
مجرد تذكرها ومدى سعادتي بالاهتمام بشىء له القدرة على إحداث أثر كبير على المستوى البعيد أشعرني بالسعادة، على الرغم من عدم إدراكي بأهمية ما أفعله مستقبلاً، واحزن حالياً عند المرور على شارعنا القديم والنظر للشرفات القديمة وأجد اختفاء أصيص الزرع منها، فبعد أن كانت تمتلئ نباتات كنا نتنافس على زراعتها اصعبت ملجأ ومخزن للأدوات المنزلية.
كنا نتعامل معها من قبل على أنها مظهر جمالي، ولم نكن ندرك قيمتها الحقيقية إلا الآن، أو ربما إنشغالنا في قضايا أخرى جعلنا نهمل في الاهتمام بالشيء الأساسي في وجودنا، أعلم إبني الزراعة كما تعملتها قبلاً، واعرفه على انواع النباتات وكيفية التعامل معها، وعدم إيذائها والاعتناء بها بأكبر قدر ممكن، حتى أصبحت كل طموحاته أن يصبح مهندساً زراعياً، ودائماً ما أقول له: إن ما تزرعه الآن هو الضمان الحقيقي لوجودك، والسبب الذي سيجعل أولادك وأحفادك يثنون على ما تفعله، فالأرض والبيئة ليست ملكاً لك وحدك، بل هي إرث يجب أن نورثه بأفضل صورة لأبنائنا وأحفادنا.