يبدو أن الذين انخرطوا في تفكيك فكر (الشيخ الشعرواي) خلال الأيام الماضية قد ذهبوا بخيالهم المريض لتحقيق نوع من الشهرة بعد أن صنعوا اللجج والجدل العقيم حول (الشيخ الجليل)، وهو الذي أفني حياته في سبيل تفسير مبسط للقرآن الكريم يفهمه البسطاء والمثقفين وحتى المستغرقين في بحار علوم الدين، فالرجل بعيدا عن آرائه الفقهية له ماله وعليه ماعليه وهو الآن في دار الحق لايستطيع التمكن من الرد على هؤلاء وأمثالهم الذي يستهدفون تحطيم الرموز الراسخة في وجدان المصريين، الذين هبوا على السوشيال ميديا مستنكرين تلك الحملة الحمقاء التي لم تنل من الشيخ الجليل قيد أنملة، بل أحيت روحه فينا من جديد!
ليت هؤلاء المتشدقين بكلام واه يقرأون الدراسة الرائعة التي كتبها الباحث الدؤوب (نبيل عبد الفتاح)، مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، والتي نشرها على الموقع الإلكتروني للمركز على الإنترنت بعنوان (الحياة الدينية والحياة الرقمية: جدل الفعلي والافترضي)، والتي يقول فيها: (الحياة الدينية، وحالاتها المتغيرة فى مصر والمنطقة العربية، تلعب أدوارا مهمة فى مسارات تطور الوعى الاجتماعي والسياسي، وتؤثر على إمكانات التطور فى مختلف مجالات الحياة الاجتماعية التي تُعد جزءًا مهمًا منها. وفى عديد الأحيان والمراحل التاريخية، تساهم الحياة الدينية أيضا فى تديين بعض من القوانين والقيم، والأعراف، والتقاليد الموروثة والمتغيرة، ومن ثم التأثير في العلاقات الاجتماعية، بل وتديين لغة الحياة اليومية فى الريف، والمدن، خاصة فى ظل ظواهر ترييف المدن وثقافتها، كنتاج للهجرات من الأرياف إلى المدن الحديثة، التي تغيرت ثقافتها، وبعض أنماط السلوك الاجتماعي داخلها).
ويضيف عبد الفتاح في استشراف واع: (الحياة الدينية، هى جزء بالغ الأهمية من الحياة الاجتماعية، ويمكن لنا أن نُعَرِفها بأنها الجزء المخصص من حياة "الفرد" للتفكير فى مفاهيم الأُلوهية، والنبوة، وصحبهم، والقديسين وأولياء الله الصالحين، وكبار المتصوفة وجماعتهم وتابعيهم، والقديسين في المسيحية، وكبار الفقهاء والمفسرين، وكاتبي السير، وسردياتهم التاريخية فى الإسلام ومذاهبه المختلفة "السنة والشيعة والأباضية" الأمر يمس كافة الأديان ومذاهبها فى الجغرافيا الدينية فى المنطقة العربية، والاسلامية. الحياة الدينية الفردية والجماعية، تشمل غالب المؤمنين آيا كانت أديانهم، ومستوياتهم الاجتماعية والتعليمية. هى أيضا العمليات الذهنية والروحية للمؤمن حول العقائد، والطقوس، والتقاليد، والعادات والأعراف، والبحث عن المعنى فى الحياة، والوجود، والموت، والعدم، عبر النظام الديني، وموروثاته، وتأويلاته السائدة فى مرحلة تاريخية واجتماعية وسياسية ما),
وهنا أتوقف بقدر من التأمل عند قوله: (عن المعنى فى الحياة، والوجود، والموت، والعدم، عبر النظام الديني، وموروثاته، وتأويلاته السائدة فى مرحلة تاريخية واجتماعية وسياسية ما) لأسأل هؤلاء الذين انخرطوا في جدلية فكر (الشعرواي) الذي كان يفهم ويعي جيدا قيمة (الحياة، والوجود، والموت)، كما وردت في أحاديثه التلفزيونية التي كان يقوم فيها بتفسير النص القرآني طبقا للتغيرات الحادثة في حياتنا جميعا متسلهما الحكمة من واقع كلمات الله عز وجل في قرآنه العظيم.
وأعود مجددا إلى (الباحث الشغوف بقضايا الأديان)، وألفت نظر المتحذلقين إلى فكر (نبيل عبد الفتاح) المستنير الذي يعي جيدا جوهر النص الديني وتأثيره على البشر، حيث يقول: (هى كذلك الإجابات السائدة عن أسئلة الفرد، والجماعة، والمجتمع فى كل مرحلة من مراحل تطوره، تستلهم الدين، ونصوصه المقدسة، وسردياته التاريخية، خاصة من خلال أنماط التدين الوضعي الشعبي السائد، ومحمولاته من الثقافة الدينية، وبما تنطوي عليه من نزعات، وتصورات قدرية، أو جبرية، وفى العلاقة بين الوضعي، والتصورات والإدراكات القدرية، أو الجبرية، وفى العلاقة بين الوضعي، والميتاوضعي، والمرويات الدينية الشعبية، والمتداخلة مع سرديات التصوف، وشخصيات أولياء الله الصالحين، وبعض أعمالهم الخارقة، وأدوارهم الخيرية.. إلخ.
ما أجمل عقل (عبد الفتاح) حين يضع يده على الحقيقة الغائبة عن هؤلاء الباحثين عن الشهرة على جثة (الشيخ الشعراوي) عظيم القيمة والمقام في قوله: (الحياة الدينية تتشكل من سرود رجال الدين، وخطاباتهم الدعوية، والتبشيرية، وعلاقاتهم بالسلطة آيا كانت، أو خلافات بعضهم معها، وتداخل ذلك مع انساق القيم السائدة فى المدن والحواضر والبوادى والصحراء.. إلخ!)، ثم يذهب إلى أن (الحياة الدينية متغيرة - رغم بعض الثوابت الدينية وتأويلاتها - ومختلفة من دين لآخر، ومن مذهب لآخر داخل الدين نفسه، سواء فى الأديان السماوية الكبرى، أو بعض الأديان الوضعية. الحياة الدينية هى في أبرز محاورها شخصية بامتياز، لأنها تخص علاقة الفرد بالله عز وجل، وبالأنبياء، والنبى المرسل برسالة السماء كما هو الأمر الاعتقادي فى الدين الإسلامي الحنيف، ولأن التدين الفردي هو المعبر عن هذا الإيمان).
وصاحب الفكر (النبيل عبد الفتاح) هنا يؤكد على أن (الحياة الدينية جماعية أيضا، لأنها تمثل إيمان وعقائد الجماعات المؤمنة بالله، وهذا الدين أو المذهب داخله، كما فى الإسلام على سبيل المثال - الشيعة والسنة والأباضية - وداخل كل مذهب مدارسه الأساسية الكبرى كما فى المذهب السني - الحنفية، والشافعية، والمالكية، والحنبلية - وفى المسيحية حيث المذاهب الثلاثة الكبرى (الأرثوذكسية، والكاثوليكية، والبروتستانية)، ولاهوت كل مذهب والجماعات المتفرعة داخله)، وكأنه يقول لكتيبة الاختلاف مع (الشعراوي) أن الاختلاف في الآراء حول العقائد والمذاهب لا تفسد للود قضية داخل الدين الواحد، وما رجال الدين إلا حفنة من المجتهدين في تفسير النص الإلهي.
ليتهم يقرأون ويعون ويفهمون قبل أن ينزلقوا إلى مستنقع (الجهل الواعي)، نعم الجهل الواعي، فـ (العلم بكل ما يمكن معرفته لا يعني العلم بكل شيء!)، وأشير هنا إلى أن (وراء المجهولات المجهولة، يكمن ما لا يمكن معرفته!)، لذا فسر لنا (عبد الفتاح) أن: (الحياة الدينية تمتد إلى الأديان الوضعية الأخرى، التي تشمل الخرائط الجيو - دينية، والسياسية فى عالمنا. الحياة الدينية، وأبرزها أنماط التدين الوضعية والشعبية السائدة فى كل مجتمع حول كل دين أو مذهب، بها مستويات للتغير، منذ تاريخ نشوءها، والإيمان بها وفق عديد من المتغيرات الاجتماعية، والسياسية والحضارية والتقنية والعلمية أيا كانت مستويات تطورها التاريخي، من الانفتاح، والتجديد إلى الانغلاق والتزمت، والتشدد الديني).
من ثم يقول - الباحث العميق فكرا وعلما وفلسفة -: تتأثر الحياة الدينية الفردية، بالحياة الدينية الجماعية والحياة الاجتماعية، ومحمولاتهم من الموروثات الشعبية والرأسمال الديني والعادات والتقاليد وأنماط الحياة، والصراعات الاجتماعية والسياسية، وأبنية القوة السائدة فى هذه المرحلة التاريخية أو تلك. من هنا نحن إزاء عمليات سوسيو- سياسية، وسوسيو - ثقافية، وسوسيو - دينية، فى حالة تجمع بين بعض الموروثات السائدة حول الدين أو المذهب، وبعض التحولات فى الحالة الدينية الوضعية المتغيرة داخل كل المجتمعات، وتغيراتها، من حيث انطلاق المجتمع، وانفتاحه، والعلاقات البينية بين الأديان والمذاهب بعضها بعضًا أو التوترات، والنزاعات بين اتباع هذه الأديان والمذهب، أو العنف الذي يستند إلى مشكلات اجتماعية وغيرها).
وكأن (عبد الفتاح) كان يستشرف هذه الحملة المسعورة على (الشيخ الجليل) في قولة: (من هنا، فإننا لسنا إزاء حياة دينية ساكنة تاريخيا تتسم بالجمود فى الفكر الديني الوضعي، وخطاباته المتعددة، أو التطرف والعنف، أو التجديد فى الفكر الديني والثقافة الدينية، وإنما نحن إزاء حالات متعددة، ومتراكمة حينا، ومتقطعة حينا آخر للحياة الدينية الفردية. فى بعض المراحل التاريخية نكون إزاء تدين اعتدالي ووسطى، يسوده التجدد الروحي الفردي والوئام الاجتماعي والدينى بين الأديان والمذاهب، والحوار فيما بين بعضهم بعضًا، والتعايش المشترك.. إلخ. فى بعض الأحيان، ولأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية، وتأويلات دينية متطرفة أو متشددة أو محافظة، يسود العنف وثقافة التطرف وكراهية الآخر الديني والمذهبي داخل ذات المجتمع أو خارجة إزاء الأديان الأخرى ومذاهبها المختلفة فى الثقافات الأخرى أيا كانت مواقعها الجيو- سياسية، والجيو- دينية، من ثم، تُعد أنماط التدين الشعبي - الذي هو حال المصرين على اختلاف أديانهم ومذاهبهم - ولدى تكوين رجال الدين أو نساءهم - كما فى البروتستانتية، ومدارسها على سبيل المثال - تتسم بالاستمرارية للموروث الديني، والتغير السوسيو- دينى والسوسيو- ثقافي، والسوسيو- اقتصادي، والسوسيو- تكنولوجي.
ولأنه باحث حقيقي ينتمي إلى مدرسة التدقيق والتحليل للظواهر الدينية المختلفة، فقد ذهب (نبيل عبد الفتاح) إلى لفت نظرنا إلى حقيقة أنه: (فى بعض الأديان فى المجتمعات الأكثر تطورًا فى الغرب (على خصوصياته، والتعدد الثقافي داخل دوله ومجتماعاته) تتطور الدراسات حول الدين والمذهب كنتاج للتطور فى المناهج التاريخية، والأركيولوجية، واللغوية/ اللسانية، ونظريات التأويل، والتفسير، والفكر الفسلفي، والدراسات السوسيولوجية النظرية، وتطبيقاتها، ودراسات الأديان والمذاهب المقارنة، وتشكيل وتكوين بعض رجال اللاهوت المسيحي، والباحثين فى المجال الديني. من ثم، تتطور معهم المعرفة الدينية، والتفسيرات والشروح الدينية).
ومن ثم يشير (عبد الفتاح) إلى أنه: (لا شك أن هذه التطورات التاريخية - السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية - من الحداثة إلى ما بعدها، وما بعد بعدها، والثورات الصناعية من الأولى إلى الرابعة - ساهمت فى تكريس التمايز بين الوضعي، وما وراءه فى ظل النماذج العلمانية المختلفة بين تاريخية وتقاليد الجمهورية الفرنسية، إلى النماذج البريطانية، والأمريكية، والألمانية على سبيل المثال، التمايز والانفصال بين الديني، والسياسى، والاجتماعى الوضعي، وتشكل وتطور الثقافة فى كل مجتمع ونظام علماني، أدت إلى انعكاسات كبرى على بعض أنماط التدين السائد فى كل بلد غربي فائق التطور، وفى العلاقة بين التدين الفردي وبين المقدس داخل المسيحية الكاثوليكية والبروتستاننية. الأهم أن هذا الانفصال بين الوضعي الحي، والمتطور سوسيو - ثقافيا وسياسيا وتكنولوجيا، وبين الميتاوضعي، بات جزءاً من الحرية الدينية، وحرية الضمير، والتدين واللاتدين، والإيمان وعدم الإيمان، والحق الإنساني فى التحول الديني والمذهبي، وتكرس ذلك كجزء من حركة حقوق الإنسان، والأهم كحق فى إطار الثقافة القانونية والسياسية فى هذه الدول ومجتمعاتها، من خلال التدين الفردي.
في الواقع فإن دراسة البحث (نبيل عبد الفتاح) تضع أيدينا على الداء والدواء في قضايا الاختلاف حول رجال الدين في حدود العقل والمنطق بقوله السلس دون خطاب تشنجي: (هناك نظرة نمطية وبسيطة سائدة لدى البعض حول الفكر الديني الإسلامي السني، ترى أنه يشكل عقبة بنائية ضد التطور الاجتماعي والسياسي والثقافي، نظراً لجمود هذا الفكر وسكونه، وبروز خطابات محافظة، ومتشددة من بعض رجال الدين - وبعض الداعيات من النساء فى العقود الأخيرة - ومن خطابات العنف والإرهاب، بجانب الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية، والسلفيات الجهادية وممارستها للعمليات الإرهابية، وخطابات التكفير الديني إزاء مخالفيها، أو إزاء الآخر الديني.
الدراسة على طولها الذي لايتسع المقام لنشرها كاملة وتناولها بالتحليل العقلاني كاشفة بوعي وتأمل راق لأجمل آرائه، ولعلي هنا أكتفي بهذا القدر منها عبر خاتمته الرائعة بقوله: (هذه النظرة تحاول فى خطابها الهش والسطحي إقامة تناقض بين الإسلام والحداثة وتطورات عصرنا، وبين الإسلام والدين وعوائق التنمية الشاملة، بالنظر إلى القيم التقليدية واللاتاريخية، والماضوية، التي يطرحها الفكر الديني الوضعي، وخطاباته، وجماعاته السياسية الإسلامية، وبعض رجال السلطة الدينية الرسمية والجماعات السلفية.. ألم أقل لكم إقرأوا وافهموا هذه الدراسة، ربما تسكت هذه الأصوات النشاذ عن ضجيحها المقيت الذي ينغص علينا حياتنا بين الحين والآخر؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة