ربما تبقى المنطقتين العربية والإفريقية، بمثابة أولويات مهمة للسياسة الخارجية للصين، في المرحلة الراهنة، وهو ما يمثل امتدادا لسياسة "حشد" المعسكرات التي تمارسها القوى الدولية الكبرى، لكسب التأييد الدولي، استعدادا لحقبة جديدة من النظام العالمي، سوف تشهد، لا محالة، حالة من التعددية، بعيدًا عن الهيمنة الأحادية التي سيطرت على العالم منذ نهاية الحرب الباردة، في التسعينات من القرن الماضي، وهو ما يبدو في العديد من المشاهد الأخيرة، ربما أبرزها القمة الصينية العربية، التي عقدت في العاصمة السعودية الرياض، في الشهر الماضي، والتي تلتها بأيام قليلة قمة أمريكية إفريقية، بواشنطن، في انعكاس صريح لحالة من الملاحقة بين القوى المتنافسة لاستقطاب التأييد الدولي، لإضفاء أكبر قدر من الشرعية الدولية، على المساعي التي تبذلها سواء للاحتفاظ بمكانتها الدولية، على غرار الولايات المتحدة، أو كسب مساحة أكبر من النفوذ، كما يبدو في الحالة الصينية.
ولعل الجولة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الصيني شين جانج، والتي تعد الأولى له، منذ توليه مهام منصبه، في ديسمبر الماضي، تمثل انعكاسا لأولويات بكين الدولية، في ضوء المزج بين البعد الإفريقي، والذي طغى عليها، بالنظر إلى المحطات التي توقف عندها، والتي شملت إثيوبيا والجابون وأنجولا وبنين، من جانب، بينما حملت في طياتها بعدا عربيا، في إطار محطته الأخيرة في مصر، والتي تحمل الهويتين معا، وهو ما عززته زيارته لجامعة الدول العربية، ولقاءه مع أمينها العام أحمد ابو الغيط، من جانب آخر، ليصبح عاملي التوقيت والترتيب، مؤشرا مهما لحالة الملاحقة الدبلوماسية بين بكين وواشنطن.
فلو نظرنا إلى استهلال وزير الخارجية الصيني جولته بزيارة إثيوبيا، والتي تمثل مقر الاتحاد الإفريقي، نجد أنه يمثل محاولة مهمة للإبقاء على بكين في الدائرة القارية، لملاحقة المساعي الأمريكية لتعزيز نفوذها في القارة السمراء، عبر القمة التي عقدت في واشنطن، بينما اختتمها بزيارة مصر، باعتبارها "نقطة الاتصال الإقليمي"، بين المنطقتين العربية والإفريقية، في حين تبقى زيارته للجامعة العربية، بمثابة تعزيز لنتائج القمة العربية الصينية، وهو ما يعكس أحد أهم أهداف الجولة الخارجية الأولى للوزير الصيني، والتي تحمل أولوية إفريقية للقفز على مخرجات القمة الأمريكية، بينما تسعى لتعزيز الدائرة العربية، عبر التأكيد على نتائج القمة الصينية.
ربما كان ترتيب محطات الجولة الأفريقية، مستلهما من جولة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، للمنطقة نفسها، في يوليو الماضي، بعد أيام من القمة العربية الأمريكية، وإن كان ذلك بصورة معكوسة، حيث استهلها بزيارة مصر، باعتبارها تحمل العمقين العربي والإفريقي، وتخللها زيارة للجامعة العربية، لملاحقة التحرك الأمريكي نحو استقطاب الجانب العربي، في ظل الصراع القائم حاليا بين موسكو والغرب على الأراضي الأوكرانية.
وبالنظر إلى جولتي وزيري الخارجية الصينى والروسي، في إفريقيا، بينما تحملان فى الوقت نفسه صبغة عربية، تبدو حقيقة مفادها أن القاهرة نجحت بامتياز في تنصيب نفسها في موقع دولي جديد، باعتبارها "نقطة اتصال" إقليمي، بل ونجحت في اقتناص اعتراف دولي ضمني، بتجاوز الدور القائم على فكرة القيادة التقليدية، محدودة النطاق، في إطار الدور المرسوم لها، في ظل حقبة الهيمنة الأحادية، والذي اقتصر في أغلب الأحيان، على الصراع الإقليمي، وتحديدًا القضية الفلسطينية، خلال العقود الماضية، في الوقت الذي شهدت فيه دوائرها الدبلوماسية الأخرى إهمالا بالغا، وهو ما يرجع في جزء منه للظروف الدولية القائمة، بينما يمثل انعكاسا في جانب آخر، لحالة اعتماد نهج يقوم على التبعية المطلقة، جراء الدوران في فلك حليف واحد، نحو أفاق أكثر اتساعا على المستوى الدولي.
ويعد النهج المصري الجديد، والقائم على تبني موقف محايد، من الصراعات الدولية، وآخرها الأزمة الأوكرانية، أو الصراع الأمريكي الصيني، سببا رئيسيا، في إضفاء الكثير من المصداقية للدور الذي تلعبه على الصعيد الدبلوماسي، بينما نجحت في الوقت نفسه في استقطاب الدول التي تمثل عمقًا استراتيجيا لها، سواء عربيا أو إفريقيا، لانتهاج نفس الرؤية، والتي تجاوزت الإطار الفردي المحدود نحو إطار إقليمي يبدو أكثر اتساعا في المرحلة الراهنة، وهو ما يعكس عمق الدور الجديد الذي تلعبه مصر في مناطقها الجغرافية، والذي بات متجاوزا القيادة التقليدية، لتتحول نحو صياغة دبلوماسية إقليمية أكثر شمولا.
النهج الحيادي، على المستوى الإقليمي، تجلى في تصريحات الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد ابو الغيط، خلال المؤتمر الصحفي الذي عقد على هامش زيارة الوزير الصيني، عندما أكد على أن التقارب الكبير بين العرب وبكين، لا يهدف إلى الإضرار بطرف ثالث، في انعكاس لحالة من الاستقلالية في صياغة العلاقات العربية على المستوى الجمعي مع المحيطين الدولي والإقليمي، بعيدا عن الانغماس في الصراعات الراهنة، لتصبح لغة المصالح المتبادلة هي المهيمنة على بوصلة الدبلوماسية العربية، وهو ما يمثل امتدادا للموقف من الأزمة الأوكرانية، عندما فتح "بيت العرب" أبوابه، أمام طرفي الأزمة لتوضيح مواقفهم أمام العالم العربي، عبر كلمات أدلى بها وزير الخارجية الروسي، ومبعوث الرئيس الأوكراني للشؤون العربية، أمام المندوبين الدائمين، بينما تبقى المرونة نفسها سائدة على مستوى الدول العربية، مع بزوغ أدوار إقليمية مهمة لدول أخرى في المنطقة، بفضل مساحة كبيرة تركتها الأوضاع الدولية والأزمات المستحدثة، والتي تبقى في حاجة إلى وجود أكثر من قوى فاعلة، مع تحقيق أكبر قدر من التعاون فيما بينهم، للوصول بالاقليم إلى "بر الأمان"، وهو ما يساهم في الوقت نفسه في تخفيف حدة المنافسة.
وهنا يمكننا القول بأن ثمة دور جديد استحدثته مصر، باعتبارها نقطة الاتصال الرئيسية بين منطقتيها العربية والأفريقية، بينما تبدو جهودها لتعزيز هذا الدور قد أثمرت فعليا عن الحصول علي اعتراف دولي به، وهو ما يمثل نتيجة لتحركات عدة حملت امتدادا جغرافيا واسعا عبر توسيع دوائرها الدبلوماسية طيلة السنوات الماضية، للدفاع عن محيطها الاقليمي ومصالحه في مختلف المحافل الدولية، مما ساهم في تعزيز حالة الثقة الدولية، لتتجاوز القيادة التقليدية نحو صياغة دبلوماسية إقليمية شاملة، تتحدث بها امام العالم باسم مناطقها الجغرافية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة