ربما يكون أهم ما كشفته الدعوة للحوار الوطنى، هو وجود رغبة لدى قطاعات كثيرة للانخراط فى هذا الحوار كلٌ بطريقته، وحتى هؤلاء الذين أبدوا رفضهم أو تحفظهم، فى الواقع لم يتوقفوا عن طرح آرائهم فى القضايا المختلفة، فى السياسة والاقتصاد والقضايا الاجتماعية، لكن اللافت للنظر أن كثيرين يعلنون آراءهم على صفحاتهم بمواقع التواصل، يقدمون اقتراحات أو أفكارا، بعضها صالح للمناقشة والتطبيق، وهناك مقولة لأحد المفكرين «الأفضل أن نقول ماذا نفعل، وليس ماذا سيحدث».
ويمكن التفرقة بين من يطرحون أفكارا وآراء حول ما يجرى، أيا كانت هذه الآراء، وبين من توقفوا عند رأى واحد لا يتغير، من دون أن يطرحوا أسئلة أو يتفاعلوا مع ما يجرى، خاصة هؤلاء الذين يتبنون آراء تحمل التشاؤم وتتبنى المبالغة، مع الرغبة فى تأكيد أنهم على حق، يرحبون فقط بمن يؤيدهم أو يتفق معهم، وهى مفارقة أنهم يطالبون بحوار، ويرفضون تقبل النقاش.
نقول هذا بمناسبة إعلان مجلس أمناء الحوار الوطنى عن بدء الحوار، بعد تحديد الآليات والموضوعات والمحاور، والتأكيد على عدم استبعاد أى مقترحات، أو أطراف، على مدار شهور منذ إطلاق الرئيس عبدالفتاح السيسى، لمبادرة الحوار الوطنى، استمعنا وقرأنا آراء لعدد كبير من مثقفين وسياسيين وأكاديميين ومهنيين، وزملاء من كل الفئات والاتجاهات، سواء مباشرة أو على شاشات الفضائيات ومواقع التواصل، هذه الآراء تمثل فى حد ذاتها جزءا من حوار مطلوب، وتشير إلى رغبة فى المشاركة مع فقدان للطريقة، وهنا يأتى دور الأمانة العامة للحوار، والتى تتيح الفرصة لأكبر قدر من أصحاب الآراء ليشاركوا ويتفاعلوا مع الأفكار والتطورات.
وحسب الاهتمامات فإن كل طرف يركز على نقطة أو نقاط، ويظل الاقتصاد المحور الأكثر جذبا، لما يمثله من ارتباط بكل القضايا، فضلا عن تأثيره المباشر على الأفراد وحياتهم، رغم أن الاقتصاد مثلا يتشابك ويتقاطع مع باقى القضايا، وهناك حاجة ليكون الحوار متقاطعا مع ما يجرى فى الدولة والمجتمع، وهناك بالفعل تحركات فى الصناعة ودعم التصدير والزراعة، وهناك تقدم فى ملفات التعليم والتأمين الصحى، والذى يتطلب تفاعلا من قبل أصحاب الخبرة والرأى فى مثل هذه الملفات، وهناك تصور وخطط للدولة على مدار السنوات فى ملفات مثل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وملف الحماية الاجتماعية، والرعاية الصحية من خلال مبادرات نجحت فى مواجهة الفيروس الكبدى، و100 مليون صحة، وقوائم انتظار العمليات الدقيقة، أو ملف العمل الأهلى.
وهى ملفات تنتظر أن يقدم الخبراء آراءهم فيها من داخل وخارج الصندوق، مثل تمكين الفئات الأضعف والأولى بالرعاية، وهى ملفات تحقق تقدم فيها، وليس مطلوبا أن نؤيدها أو نعارضها، لكن أن ينطلق المتحاورون من نقاط تحققت إلى خطوات يمكن البناء عليها، وأن يكون هناك تحديد للحقوق والواجبات.
وتثبت تجربة الشهور الماضية، أن هناك جدية للاستماع إلى كل الآراء، بعد بناء جسور للثقة بفضل عمل لجنة العفو الرئاسى، التى تواصل حل ملفات المحبوسين أمام النيابة أو بقرارات عفو، والحرص على إعادة الخارجين لأعمالهم ومساندتهم اجتماعيا، مع التأكيد على أن الحوار الوطنى أمر محلى مصرى خالص، لا علاقة له بأى تقاطعات أو محاولات لفرض وجهات نظر داخلية أو خارجية، وباعتبار الحوار هو مساحة لاستيعاب الآراء المختلفة، والانتقال إلى مرحلة أكثر رحابة وقدرة على الاستيعاب.
الشاهد فى كل هذا أن يقوم الحوار على استغلال أرضية مشتركة، وبناء جسور ثقة تضاعف من القدرة على إنتاج توصيات قابلة للتطبيق، فى ظل تأكيد من الدولة بالانفتاح على كل الآراء من أجل المستقبل.