أتصور أن الموضوع الأهم الذي يجب أن يكون على أولويات الحكومة في الوقت الراهن هو استعادة حالة التفاؤل في المجتمع وطمأنة الناس حول المستقبل ووضع سيناريو إيجابي قائم على التخطيط والمتابعة لما يمكن أن يحدث خلال الأشهر المقبلة، وشفافية مطلقة في كل الإجراءات التي تتم وجدواها وعوائدها على المواطن، على أن يكون كل ما سبق بصورة مبسطة بعيدة عن الكلمات والمصطلحات المعقدة، أو الأرقام التي باتت في معظم الأحوال لا تقودنا إلا لمزيد من الحيرة والقلق.
معدل التضخم الأساسي وفقاً لبيانات البنك المركزي الأخيرة قد وصل إلى 21.5% تقريباً، لكن هل أسعار سلة الغذاء والسلع الاستهلاكية اليومية زادت أسعارها بهذه النسبة خلال الأشهر الماضية؟ الإجابة الواضحة بكل صدق لا، فالأسعار على مدار 10 أشهر مضت، تحركت بمعدلات من 80 إلى 90% وفق التقديرات المنطقية وحسابات رجل الشارع العادي، الذي كان يشترى الدواجن الحية نظير 30 جنيها للكيلو جرام، بينما تجاوزت الـ 65 جنيها حتى كتابة هذا المقال، ولتر اللبن الذي كان يتراوح من 12 إلى 14 جنيهاً، ووصل سعره اليوم إلى 28 جنيهاً، واللحوم البلدية، التي كانت تتراوح من 120 إلى 140 جنيه، بينما باتت اليوم من 200 إلى 230 جنيها، والسيناريو المذكور ينطبق على أغلب السلع الغذائية، بما في ذلك الخضراوات والفاكهة.
هل يمكن أن نضع التضخم وارتفاع الأسعار واضطراب الأسواق في رقبة التجار والمصنعين والغرف التجارية وأصحاب المصالح فقط أم أن في حقيقة الأمر هناك أبعاد أخرى، الحقيقة البسيطة التي لا تحتاج إلى تأويل أو مزايدة أن العملة الوطنية منذ تحريكها في 21 مارس 2022، ثم التحريك مرة أخرى في 27 أكتوبر 2022، وأخيراً يوم 4 يناير الجاري، وقد فقد الجنيه خلال هذه الرحلة حوالي 60% من قيمته أمام سلة العملات الأجنبية، ولو نظرنا إلى هذا الانخفاض مضافاً إليه معدلات التضخم العادية 10% سنصل إلى 70% تقريباً، وهي نفس النسبة التي تحركت بها الأسعار خلال الفترة الماضية، وذلك يعود إلى فكرة أساسية أن أغلب مدخلات الإنتاج تأتينا من الخارج، وهو أمر يضغط بصورة مستمرة على موارد العملة الصعبة.
زيادة الاستهلاك وغياب ثقافة الترشيد عمًقت من الأزمة الاقتصادية بصورة أسرع بالإضافة إلى ثقافة التخزين والاكتناز للسلع التي ينافس بها الشعب المصري أي شعب على هذا الكوكب، فالبعض يشتري احتياجات لعدة أشهر، خاصة الحبوب وكل ما يتعلق بالسلع الغذائية، وهو ما يضاعف الطلب ويضغط على حجم المعروض في الأسواق، ويتناسب الأمر طردياً مع تحرك أسعار السلع، فكلما زاد سعر السلعة كلما تحرك الناس لاقتنائها، لذلك قد تجد المسحوبات من بعض السلع في الأسواق بنسبة 100% بينما سلع أخرى تراجعت مبيعاتها بنسب كبيرة.
إذن ما الحل؟ وكيف نخرج من الوضع الراهن؟ أولاً يجب أن تتدخل الدولة بصورة مباشرة في توفير بعض السلع، خاصة الغذائية عالية الاستهلاك من خلال شركاتها ومنافذها وتضخ كميات كبيرة في الأسواق خلال الأيام المقبلة بأسعار مخفضة، ثانياً النظر في رفع مستويات الأجور ودراسة هذا الأمر بأسرع وقت ممكن، حتى يتمكن الناس من مجابهة الغلاء الذي لحق بالسلع والخدمات، على أن تكون نسب الزيادات استثنائية، وضعف ما كان يتم صرفه في الظروف العادية، ثالثاً الإفراج الجمركي عن أي خامات أو مستلزمات تدخل بصورة مباشرة في الصناعات الغذائية، واعتبار هذا الأمر أولوية في مواجهة التضخم، مثل الأعلاف والزيوت والحبوب، ومواد التعبئة والتغليف، رابعاً التشجيع على الإنتاج الزراعي بصورة تكفل زيادة إنتاج المحاصيل الاستراتيجية مثل الأرز والقمح، بأن يتم تشجيع الفلاح على الزراعة واستلام المحصول بنسب تزيد 15 إلى 20% عن السعر العالمي، خاصة أن الإنتاج المحلي يحفظ موارد العملة الصعبة، ويساعد في تحقيق الاكتفاء الذاتي، خامساً يجب أن يتجه المواطن إلى تقليل الاستهلاك بشكل عام والتخلي عن السلع غير الضرورية، وضبط موازنة المنزل بالصورة التي تتلاءم مع حجم الدخل والقدرة على الإنفاق، سادساً لابد من إعادة النظر في حيازة المواطنين للعملات الصعبة، وحدود الكاش المسموح تداولها مع المواطن، فكل الدول المتقدمة لا تسمح لمواطنيها أن يضعوا أموالهم "تحت البلاطة"، أو الاحتفاظ في منازلهم بأموال طائلة تصل إلى عشرات الملايين سواء من العملة المحلية أو الأجنبية، فهذا يضر الاقتصاد والمواطن على حد سواء، سابعاً وأخيراً يجب أن تزيد مستويات التكافل الاجتماعي وبرامج الحماية للطبقات الفقيرة والمعدمة، حتى تتمكن من مواجهة أعباء الحياة في الفترة المقبلة، والنظر إلى حجم الدعم الموجه إلى هذه الفئة.
الأزمة الاقتصادية التي يعيشها العالم كله والدول النامية والاقتصادات الناشئة تحتم علينا أن نضع مصلحة المجتمع أمام أعيننا، لذلك أتصور أن طمأنة الناس حول المستقبل القريب، وطرح حلول في مواجهة الأزمة من صميم عمل الإعلام في الوقت الراهن، دون أن يكون الأمر له علاقة بتوجيه نقد أو لوم، بل الهدف أن نخرج من الأزمة بأقل الخسائر الممكنة، ونقلل من حالة الضجيج الصاخبة التي باتت تسيطر على روتين حياتنا اليومي بصورة مبالغ فيها، فالقضية ليست السبق أو الانفراد بالنشر أو السيطرة على أكبر قطاع من الجمهور، بل التوجيه نحو المسار الصحيح، والتحرك في المساحات الآمنة، التي تحفظ أمن واستقرار المجتمع.