حازم حسين

ثقوب فى ثوب المعارضة.. هوامش على سباق الرئاسة ودراما مغازلة الإخوان

الأحد، 01 أكتوبر 2023 03:18 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
المعارضة خيرٌ لا شرّ، والوطنيون المُتّفقون منهم على «ميثاقية 30 يونيو» ذخيرة سياسية للدولة، مهما بدت خلافات الرأى حادّة وساخنة. انخراط تلك الجبهة فى الانتخابات الرئاسية وغيرها من الاستحقاقات مُهم ومطلوب؛ لأنه يُوطّد التحالف المدنى ويرفع مناعته، ثم يقطع الطريق على المحاولات المشبوهة لضرب فريق الثورة من داخله. تعى السلطة ذلك وتشتغل عليه فى نطاق صلاحيّاتها، ويعرفه الإخوان أيضا؛ لكنهم يُحاولون تفخيخه عبر حزمة من المناورات الساعية لضرب الجبهة المدنية، إمّا بتعزيز مواقف القريبين فيها للجماعة، أو استهداف وتشويه القابضين على موقف مبدئى راسخ من الرجعية الدينية المُسلَّحة والمُوغلة فى العمالة والخيانة منذ 2013 حتى الآن.
 
الرهان ليس على مناعة الجبهة الداخلية؛ لأنها محميّة بالدستور والقانون وبالإجماع الشعبى، فضلاً على ذاكرة وطنية خضراء ولم تصدأ بعد، إنما التحدِّى فى أن يتحصَّن المُعارضون من هجمات التنظيم وذيوله، وأن يتحلّوا بالجدّية والجرأة لتنقية صفوفهم أوّلاً بأوّل؛ إذ لا تحتمل الأحزاب وأطيافها الليبرالية واليسارية فاتورة الانزلاق لمستنقع الأعداء، أو المسؤولية الأخلاقية والسياسية، أمام الشارع والتاريخ، عن إسناد خطاب الإرهاب والارتزاق، وخرق خطوط المصلحة العُليا الحمراء.
 
دخل الهاربون على خطّ المحطَّة الرئاسية مُبكّرًا، طوال شهور مضت يجتهدون فى مدّ الجسور وتعبيد الطرق مع بعض التيارات، ومع وجوه من النُّخَب وقادة التحالفات السياسية، جرى لقاء فى بيروت بين واحد من راغبى الترشُّح ووكيل عن الإخوان، ثم تكرَّر ظهور مُنسِّق أحد الائتلافات حديثة الولادة على شاشات الجماعة، وأطلّ كادرها حلمى الجزار متغزلا فى فتى الطاولة البيروتية، وبعدها انفتحت بالوعة الغزل من جوقة التنظيم فى القنوات والمنصَّات الرقمية، وعبر وسطاء ممّن يدّعون المدنيّة، لوجه الموضوعية وحدها لا نجزم بأنّ اتفاقًا يجمع الشامى بالمغربى، والعلمانى بالأصولى؛ لكنّ شواهد الأيام الماضية تُغلّفها شُبهات عصيَّة على الردّ والإنكار، وروائحها صاخبةٌ حتى تكاد تزكم الأُنوف، إن كان الفريقان قد دخلا معًا إلى غرفة مظلمة فتلك مصيبة، ولو كان الوفاق البادى بينهما ارتجاليا وعشوائيا فالمصيبة أكبر؛ إذ المعنى الكامن فيها أن بعض المدنيِّين يرتدُّون عن مدنيّتهم، وأنهم قابلون للتسييل والتعبئة فى قوارير التنظيم، كما جرى كثيرا منذ السبعينيات وإلى انتخابات 2011 التشريعية ورئاسيات 2012. الواضح أن المُعارضة تعيش أزمةً بنيوية، قد تستسهل فتحملها على رواسب الماضى وضيق المجال العام؛ بينما فى الواقع هى أزمة فكر وتكتيك واستراتيجيات، ومحنةٌ نابعةٌ من داخلها، قبل أن تكون تعبيرا عن ضغوط أو تفاعلات خارجية.
 
قبل ثمانى سنوات، استقال أحد الباحثين حديثى العهد بالسياسة من حزبٍ تأسَّس تحت جناح رجل أعمالٍ بارز، وفسَّر الأمر باختلاف الرؤى وافتراق الأهداف، قضى أعواما فى بيته ثم التحق بحزبٍ ثانٍ يملكه رأسمالىٌّ آخر، وعندما اختلف بعضُ زملائه الجُدد مع الثرى المجنون بالشهرة وقرَّروا المُغادرة، انبرى المُنشقّ القديم فى الهجوم والتلسين وقدح النوايا والغايات، أنكر على الآخرين ما أجازه لنفسه، ثمّ انخرط فى تنظيرٍ يشذّ تمامًا عن أفكار الديمقراطية والمدنية وتداول السلطة، ويُحاول الوقيعة بين دولاب الإدارة ومُؤسَّسات غير معنيّة بالسياسة، وللمصادفةِ سار معه فى ذلك رئيسُ حزبٍ تحوطه علامات الاستفهام وطُرد من البرلمان بعد إدانته فى خروقاتٍ فادحة، وكان ثالثهما أجيرٌ إخوانى ملَّكته الجماعة إحدى قنواتها واستخدمته فى تعبيد الطرق داخل التيّار المدنى، يُمكن أن تنظر للحالة من زاوية التلاقى العفوى، وأن تبحث عن تفسيرات تدفع اتهامات التنسيق والعمل من تحت الطاولة، لكن عندما يكون الاثنان شريكين فى تحالفٍ، والثالث يفتح قناته لمُنسّقه، وجميعهم يلتقون على دعم مُرشَّح رحَّبت به الجماعة رسميًّا عبر بياناتٍ أو إطلالات لقادة الصفّ الأول؛ فقد لا يكون الأمر عابرا، ولا «اللقاء الحرام» مجانيا.
 
تعيش بعض فئات المعارضة حالة من الخبل الأيديولوجى، لا ينحصر الأمر فى تلفيق تحالفات تنخرها الثقوب وتُطلّ منها تناقضات الأفكار والمواقف، ولا فى السير الأعرج بكيان نصفه يرفض الإخوان والباقون يتعطَّرون استعدادا للنوم فى حضن التنظيم؛ إنما المشكلة فى جوهرها أعمق من ذلك كثيرًا، أكبر مُنتديات المُعارضة مرَّت على تأسيسه ستُّ سنوات، ولم يُنضِج حتى اللحظة مُدوّنةً جامعة فى الكُلّيات، وواضحةً ومُفصَّلة فى الجزئيّات، الأرجح أنها كانت جبهةً بعنوانٍ وحيد: اختصام النظام ومُناطحة الإدارة السياسية، قد يصلح ذلك من المناخات المُغلقة؛ لذا فقد تشقَّق وبانت عورته مع مساحة الانفتاح التى وفَّرها «الحوار الوطنى»، ثم سقطت عنه ورقة التوت بالاقتراب من الاستحقاق الرئاسى، فبدا عاجزًا عن التوافق على مُرشَّح، أو إنجاز رؤيةٍ تُشبه شعاراتهم المُوحَّدة لا أجنداتهم المُتضادّة، فى الشقِّ الأول تصلح المُزايدةُ وحدها غطاءً لرخاوة الروابط وتهافت الفلسفة، أما فى الثانية فلا شىء يستر الانكشاف إلا اجتراح مسارات وبدائل ناضجة ومُقنعة، والتجهُّز لخوض التجربة بمنطق التنافسِ بما فيه من تحدٍّ وندّية، لا على طريقة «رمى البلا وتقطيع الهدوم» بما فيه من استضعاف واستعطاف وبُكائيّات.
 
للوهلة الأولى، قد يقول قائلٌ إنّ طرح ثلاثة مُرشَّحين من قبيل المناورة، والمقصود أن تضغط الجبهة بالثلاثة؛ لتقتنص على الأقل مكانا واحدا فى بطاقة الاقتراع، نظريًّا لا يخلو الاحتمال من وجاهةٍ ومقبوليّة، إنّما عمليًّا يتداعى وينقضّ تمامًا مع أوّل مُقاربة فاحصة، المطروحون من بيئاتٍ وخلفيّات مُتنافرة تمامًا، أحدهم يُجاهر برفض الإخوان علنًا ودون مُواءمات، والثانى يتودَّد إليهم ويغمز لقادتهم وقواعدهم بطرفِ عينه، والثالثة تقف فى مُنتصف الطريق طمعًا فى أعداء التنظيم وعشمًا فى طليقها الذى يخدم فى حظيرته، وقد سُرِّبت تفاصيل اجتماعٍ قريب لهم، حضر فيه الناصريّون بأرفع رموزهم، الذى كان اعتذر للإخوان بدلاً من «عبدالناصر» فى 2011 وختم على دخول حزبه فى طاعة الجماعة وتحالفها الانتخابى وقتها، وقد ضغط من أجل أن يتنازل اثنان لصالح الثالث، والمقصود طبعًا أن تذهب البطاقة إلى ربيبه وخليفته، ما طُرِح فى الأخير أنه من الأفضل السباق بثلاثة وانتظار الناجح عند نهاية المضمار لدعمه؛ لكن هذا الرأى تتفرَّع عنه ثلاثةُ احتمالات: أن يعبروا جميعًا فتنمو الطموحات الشخصية والحزبية ويستحيل ترك المواقع المُكتسَبة ليجنى الآخرون ثمارها مُنفردين، أو يعبر اثنان فيتكاسران بمعاونة الثالث لأحدهما أو رفضه لكليهما، وإن فاز «فتى أحلام الإخوان» فلن يدعمه خصومهم، وإن ربح عدوّ الإخوان فستُحاربه الجماعة وصديقاه، وطابورٌ طويل من شُركائه الائتلافيِّين الذين يُحبّون الرمادية ويُمسكون عصا الرجعيَّة من المُنتصف.
 
الواقع أن الحرب بدأت مُبكّرًا، قبل أيامٍ نشر «أجير الإخوان» سالف الذكر ورقةً زعم أنها صحيفةُ الحالة الجنائية لأحد راغبى الترشُّح، مُحاولاً تسويق أنّ عليه أحكامًا تمنعه من خوض المُنافسة، لستُ فى وارد الحديث عن أصالتها أو تزييفها، وذلك ممّا يقع فى ولاية الهيئة الوطنية للانتخابات، وهى قادرةٌ على الفصل فيه؛ إنّما ما يعنينى فى الموقف أنه أتبع ذلك بجملةِ رسائل كُلّها مُلوّنة: الأولى أنه تحدَّث عن شرط حُسن السُّمعة بألّا يُدان المُرشَّح فى جريمةٍ مُخلّة بالشرف، مُدّعيًا أنه المقصود المُباشر منه؛ رغم أنه هارب وموحول فى مُستنقع الإرهاب، وما جناه من «عمالة» يحرمه شرف الانتساب لمصر أصلاً وليس مُجرّد الترشُّح لرئاستها، ثم انتقل من ذلك إلى دعوة الشخص الذى يقدح فيه للظهور عبر قناته/ قناة الإخوان، فى توظيفٍ واضح لأدوات ابتزازٍ بدائيّة رخيصة؛ لإجبار خصوم التنظيم على الأكل معه من الطبق المسموم، هكذا يُهاجم شخصًا، ويمدح آخر، ويسكت عن الثالثة التى عندما هرب ترك لها شقّةً فاخرة فى حى الزمالك بأكثر من ثلاثين مليون جنيه، والثلاثة فى تحالفٍ واحد، ويُفترَض أنهم مدنيّون وكانوا جميعًا ضد الإخوان ومن جبهة 30 يونيو، ولا معنى إلّا أن نهر الجماعة الآسن جرت فيه مياهُ الأعداء القُدامى، وبات سائغًا للشُّرب؛ ربما بفعل توافقاتٍ مُضمَرة لا نعلم عنها شيئًا.
 
كأنَّ الإخوان يقفون على قارعة الانتخابات، العصا فى يدٍ والجزرةُ فى الأخرى، ويهشُّون على الشاردين من قطيع المدنيّة أو الخارجين على ميثاقية 30 يونيو؛ فإمَّا طامعًا تجذبه الوجبة السهلة، وإمَّا خاشعًا يردعه الترهيب والابتزاز.. تاريخ الجماعة ملىءٌ بلعبة السيف والذهب تلك: اجتذبوا الوفد والعمل والأحرار فى الثمانينيّات بالمال والمنافع، ودفعوا خصومهم من داخل التنظيم وخارجه بالفصل والتنكيل والتشويه وصولاً للضرب والقتل، كما فى الاتحادية والمُقطم وبورسعيد وأغلب عواصم المحافظات، استمالوا بعض النُّخَب بالعطايا واستعانوا على غيرهم بالقضايا وحصار المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامى، ما يحدث اليوم فى ملعب الانتخابات الرئاسية تكرار ممجوج لمحفوظاتهم الرثّة، واستدعاء ساذج من الدولاب القديم، بينما لم يعد السياق يحتمل ذلك أو يسمح بتمريره فى الخفاء، لكن إن كان طبيعيًّا ومُتوقَّعًا ومفهومًا تمامًا أن يحاولوا اختراق المشهد مُجدّدًا؛ فليس منطقيًّا ولا مُبرَّرًا ومقبولاً أن يُلدَغ السياسيّون من الجُحر مرّتين، حتى الانتهازية التى تُدمنها بعض الأحزاب ولا تعرف غيرها لا تقبل ذلك، ولا يمكن أن تُصنّفه إلّا تحت عنوان «الغباء والانتحار السياسى».
 
الشعبويّة جذّابة ومُغرية، وقد تُؤمِّن ذيوعًا سهلاً وإحساسًا مُريحًا بالبطولة المجانية؛ لكنها لا تُقيم مشروعًا ولا تصلب عُودَ تجربةٍ سياسية؛ لا سيّما لو كان صاحب التجربة يسعى إلى الانتقال من مقعد المعارضة إلى كرسىّ السُّلطة، الإخوان جماعة محدودة الأُفق ومعدومة الخيال، ولا تملك رؤيةً أو برنامجًا؛ لذا كانت الدعائيّةُ الفجَّة والتبذُّل فى القول واستسهال الشعارات البرَّاقة بضاعتها الرائجة، ومن طول ما أنتجتها واستهلكتها تورَّطت فى إدمانها، فتُمارسها اليوم من حواضن الدول والأجهزة التى تستخدمها، وتُشجّع من تصطفيهم من الداخل وتتوسُّم فيهم الإخلاص لأدواتها، المُعارضة الشرعية المُنضبطة تحت سقف الدستور وأعراف المجال السياسى والاجتماعى، أحوج الناس إلى تأصيل المُمارسة الجادّة، ونَفض غُبار الحنجورية والهجاء و«قلَّة الأدب»؛ حتى لا تُوصَم بكاملها جرَّاء تفلُّتات بعض المحسوبين عليها، ولا تُشرعِن حالة الابتذال والترخُّص، وقد تكتوى بنارها، يفرض ذلك نُضجًا فى الرُّؤية وسلامةً فى النظر وجدّيةً فى مُقاربة الملفَّات والقضايا، على أرضيّةٍ من حُسن النيَّة وصلابة العمل وإحكام الأفكار والخطابات، «رقص التعرّى» قد يجلب الجمهور؛ لكنه لا يُحرز الاحترام والتقدير، والأهمّ أن الشعبوية أوصلت الإخوان للسُّلطة لكنها لم تجبر عوارَها، ولم تُحقِّق لها نجاحا عجزت عن تحصيل أسبابه، والمُعارضة عليها أن تعى الدروس وتستلهم العِبَر، وأن تُذاكر على قدر الامتحانات، بدلاً من التفرُّغ لانتقاد الأسئلة والتعريض بالمُلاحظين والمُصحِّحين وزُملاء اللجان.
 
أوّل امتحانات البيئة السياسية بكاملها، المُعارضة والمُوالاة، إعادة التأكيد على الثوابت الوطنية التى أفرزتها «30 يونيو» وتحالفها العريض، المُؤيِّدون عليهم واجب البرهان على الانفتاح وقبول الديمقراطية والتعدُّدية، وهو مُرتكز أصيل من فواعل الثورة التى تصدَّت للشمولية بقدر تصدّيها للأُصوليّة وانتعال الدين فى مشاوير السياسة، والمُعارضة عليها الالتفات إلى الثقوب الظاهرة فى ثوبها، بأن تفرز صفوفها من الانتهازيّين والمُتلوِّنين، ومن يرعون معهم ويأكلون مع ذئاب الرجعيّة، وتُقوّم تحالفاتها بمدوَّنات واضحة أو تفضّها وتبرأ إلى الشارع من بعض ضِباع النُّخبة، والأهمّ أن يُعلن راغبو الترشُّح جميعًا، بوضوحٍ وصراحة ودون مُواربة، أنهم يُقاطعون الإخوان انطلاقًا من الثابت الوطنى، ويرونهم فصيلا إرهابيًّا مُعاديًا للبلد ومصالحه، وأنهم لن يعملوا معهم، اليوم أو غدا، ولا يُريدون أو يتشرَّفون بدعمهم، المسألة ليست خاضعةً للأهواء وتباينات الرؤى؛ إنما يضبطها القانون الذى سطّرته إرادة الملايين فى ميادين مصر، وتحدُّه التزامات أخلاقية تجاه الأرواح والدماء التى أراقتها الجماعة، إن كانت الانتخابات تحتمل المُداراة والمُناورة وتقاسُم الأدوار؛ فإنّ عصمتها رهينةٌ بأن يُدار ذلك فى نطاق بيئةٍ سياسية نظيفة وآمنة، وإن امتدَّت اللعبة إلى حظيرة الإرهابيِّين والمطاريد والعُملاء فلا نظافة ولا أمن، ليست مُزايدةً ولا ابتزازًا على الإطلاق؛ لكن الصراحة تقتضى الجَهر دون مُواءمات: كلُّ مَن لا يُعلن مُعاداة الجماعة الإرهابية بلُغةٍ لا تقبل التأويل هو انتهازىٌّ فى أحسن الظروف، ومُتواطؤ فى أسوأها.. ولو كان غِلمان حسن البنا يُعاودون رياضتهم المُحبَّبة مع التلاعب بالمُعارضة، فاللوم كاملاً على مَن يرتضى أن يكون لعبةً رخيصة تتقلَّب بين أيديهم وأقدامهم.. استقيموا - يرحمُكم الله - أو تحمَّلوا فاتورةَ الانحراف ولا تلوموا إلّا أنفُسكم.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة