"دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، وعاصمتها القدس الشرقية".. الصيغة الوحيدة التي تحظى بالشرعية الدولية، والتي تدعمها دول المنطقة، وفي مقدمتها مصر، التي طالما دافعت عن حقوق الفلسطينيين، على اعتبار أن قضيتهم تبقى أحد أهم الأولويات، في أجندة الدولة المصرية، منذ بدايتها، بينما تمثل في الوقت نفسه نهاية الصراع الذي طال أمده، دون تحرك جاد من قبل القوى الدولية الكبرى لاحتوائه، جراء مواقفها التي تبدو منحازة، رغم كونها مخولة بـ"رعاية" القضية، والقيام بدور الوسيط، بين أطراف الأزمة، مما ساهم في تصاعد الأوضاع، بين الحين والآخر، وما ترتب على ذلك من تداعيات كبيرة، سواء المرتبطة بتراجع آفاق الحلول السياسية، وبالتالي زيادة التعقيدات التي تصاحب العملية التفاوضية، من جانب، أو تلك التي تطال دول المنطقة، وفى القلب منها دول الجوار، جراء ما تمثله وتيرة التصعيد من تهديدات، على كافة الأصعدة، سواء الأمنية أو السياسية أو الاقتصادية.
ولعل الملفت أن الصيغة المذكورة، تبدو الحل الأمثل، والسيناريو النموذجي، لجميع الأطراف، فهي الضامن لحق الفلسطينيين التاريخي، من جانب، وضمانة لإنهاء العداء تجاه إسرائيل، وفرصتها للاندماج مع محيطها الجغرافي، وبالتالي الحفاظ على أمنها واستقرارها، من جانب آخر بينما تمثل فرصة دول الجوار لتخفيف التوترات التي طالما عانتها لعقود، جراء الصراع، من جانب ثالث، وبالتالي فإن محاولات تقويض هذه الصيغة أو الالتفاف عليها تحت أية ذرائع، يمثل في واقع الأمر تهديدا صريحا للأطراف الثلاثة، وهو ما نشهده في اللحظة الراهنة، منذ بداية "طوفان الأقصى"، والذي سقط فيه ضحايا من إسرائيل، بينما كان الرد الانتقامي سببا في سقوط مئات الشهداء الفلسطينيين، في حين تزداد معاناة الدول المتآخمة لطرفي الأزمة، جراء حالة الطوارئ التي تهيمن على المناطق الحدودية.
الأحداث الأخيرة، تبدو نتيجة مباشرة لسياسات "التسويف" التي تبنتها إسرائيل بمباركة القوى الكبرى الداعمة لها، مما ساهم في تقويض أي أمل لدى الفلسطينيين، في الحصول على حقهم التاريخي، وهو ما تكرر كثيرا في السنوات الماضية، بينما دأبت مصر على التحذير من مغبات تلك السياسات.
وبالحديث عن التحذيرات المصرية، لابد أن نلفت مجددا لما ذكره الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال المؤتمر الصحفي مع المستشار الألماني أولاف شولتس بقصر الاتحادية، حيث تناول ما يثار حول تهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء، ليحذر مجددا من تداعيات مثل هذه الخطوة، على القضية برمتها، في ضوء كونها محاولة جديدة للالتفاف على الشرعية الدولية، وتقويض حق الفلسطينيين، عبر تفريغ الأرض من مواطنيها، فتفقد الدولة أحد أهم أركانها، وهو الشعب، وهو ما يعني استمرار النزعة العدوانية بين طرفي الأزمة، ومواصلتهما للصراع، في حين تبقى الخطورة متفاقمة على الدول التي سوف تستقبل الفلسطينيين، جراء انتقال دائرة الصراع جغرافيا من الأرض المتنازع عليها، لتتحول دول الجوار هي الساحة الجديدة للمعركة.
وبنظرة مصرية خالصة، لا يمكن لمواطن مصري أن يتبنى موقفا مخالفا للرؤية التي تبناها الرئيس السيسي، وأعلن عنها، بعدم قبول فكرة تهجير الفلسطينيين، في ظل ما تحمله مثل هذه الخطوة من تداعيات أمنية كبيرة، على النحو سالف الذكر، بينما لا تختلف النظرة "العروبية" التي يعتنقها المصريين عن هذا الإطار، في ظل تحول "حلم" الدولة الفلسطينية ذات السيادة على أراضيها إلى مجرد "سراب"، بعدما يتم تفريغ الأرض من أهلها، في حين أن التهديدات الداخلية التي سوف تتعرض لها دول الجوار، سوف تساهم بصورة كبيرة في تراجع "القضية" في أجندة الأولويات لديهم، حيث ستتحول البوصلة نحو حماية الداخل من تداعيات الصراع الذي انتقل إلى أراضيها.
وفى الواقع أن دعوات التهجير تمثل الوجه الأخر لما يسمى بـ"الربيع العربي"، والذي حمل شعارات إنسانية وحقوقية، بينما كان الهدف منه بث الفوضى في دول المنطقة، وهو ما يساهم في تواري القضية، واندثارها، جراء تركيز كل دولة على مجابهة التحديات التي تلاحقها، جراء الإرهاب والصراعات الداخلية، في حين تمثل خطوة قبول خروج الفلسطينيين من أراضيهم بمثابة حلقة جديدة من حلقات نشر الفوضى في الدول، وبالتالي "تجريد" القضية من أهلها (المواطنين المهجرين) وكذلك من داعميها الدوليين (الدول المستقبلة لهم) في ضوء ما سوف تؤدي إليه من فوضى.
وهنا يمكننا القول بأن حديث الرئيس السيسي يمثل دفاعا ثلاثيا، يحمل في جوهره، حماية لأمن مصر القومي، والذي يمثل الأولوية الوطنية القصوى، من جانب، وحماية للقضية، والتي تسعى إسرائيل إلى تقويضها، بينما تمثل في الوقت نفسه حماية للأمن القومي العربي، في ظل احتمالات كبيرة لانتشار حالة الفوضى، وتجاوزها حدود دول الجوار إلى دول أخرى بالمنطقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة