إنك لا تعبر النهر مرّتين؛ على ما يقول الفيلسوف اليونانى الشهير هيراقليطيس. المعنى أن التغيّر قانونٌ حاكم، وحوادث الأيام تُنشئ سياقًا مُغايرًا بالضرورة، فتتبدَّل المعانى وإن ظلت الكلمات على صورتها الأولى. الضفّة على حالها وأنت كما كُنت لكن الماء اختلف. وبالنظر إلى البيئة السياسية المصرية؛ فقد جرت فى النهر فيضانات ومواسم جفاف، ولم يعد كما كان قبل يناير 2011 أو بعدها، ويفرض ذلك على الجميع انتهاج مسالك غير ما اعتادوا سابقًا.
الانتخابات الرئاسية الجديدة تقع تحت الشرط نفسه؛ إذ أعادت ثورة 30 يونيو وما تلاها بناء المجال العام، وترتيب توازناته بهيئة مُستحدَثة، ومن ثمَّ لا يصح أن تُستدَعى الخبرةُ القديمة للإجابة عن أسئلة جديدة، ولا أن يُدار الصراع بمحفوظاتٍ تجاوزها الزمن.. المشهد الراهن فى قطيعةٍ كاملة مع الماضى؛ لكن بعض الناظرين من السطح يتوهّمون فيه التكرار، فيُعيدون إنتاج تجاربهم السابقة؛ كأنها تصلح اليوم لتحصيل ما فاتها أمس. الثابتُ الوحيد أن الاستحقاق ماضٍ فى سبيله، وسيكتمل، سواء أحسن اللاعبون أداء أدوارهم أو أخفقوا؛ لكن النضج والفاعلية وعدم تفويت الفرصة تقتضى جدّية المُراجعة والفرز والتقويم. من صالح الدولة، كيانًا ومُؤسَّسات، أن يُنجَز المسار على وجهٍ سليم، ومن مصلحة المُتنافسين ألَّا يُجرّبوا أوراقهم العتيقة الصفراء؛ حتى لا يتجدَّد الإخفاق من دون فائدةٍ أو عبرة.
الظاهر حتى اللحظة، أن كثيرين من المُشتبكين مع المناخ السياسى يستعيرون الأدوات من دولاب الأيام الغابرة. يبدو ذلك واضحًا فى استباق تسلسل القانون والإجراءات برسائل الوَصم والتلسين، وفى اختراع المُناكفات، والعجز عن إنجاز توافقاتٍ حقيقية داخل الأحزاب والتيَّارات المُتشابهة فى الفكر، أو المُتّصلة بتحالفاتٍ وقنوات ربطٍ وتنسيق. والمأزق أن كل ذلك يسبق عبور عتبة الانتخابات، وتأمين موقعٍ فى بطاقة الاقتراع، ويتجاهل الحاجة لإعلان برامج مُتماسكة، واجتراح بدائل عن السياسات محلّ الاعتراض، دون الاكتفاء باتِّخاذها منصَّةً للنقد والهجوم والهجاء السياسى.
سنوات التوتُّر بعد يناير ألهبت عقول الجمهور، ودفعتهم إلى الواجهة؛ حتى أنهم كانوا طليعة الثورة على الإخوان؛ لكنّ كثيرين من رموز النُّخبة ما يزالون مُقيمين فى خيام ميدان التحرير، أو على قارعة التظاهرات وصِيَغ الاحتجاج، بكل ما فيها من صدامٍ ورومانسية ولجوء إلى الحلول الصفرية. كأنهم لم ينتقلوا من الميدان إلى غُرف السياسة، ومن الثورة إلى الإصلاح. الانتخابات قد تبدو فى نظر البعض مُظاهرةً كبيرة تستوعب الشعبوية وفوائض الحناجر الزاعقة؛ لكنها فى واقع الأمر على العكس تمامًا. هى عطيَّة السياسة لا الثورة، وبنتُ الإصلاح لا الهدم؛ لذا فإنها «فنّ المُمكن»، وحصافة المناورة، وكفاءة التحرُّك بين البدائل والخيارات، والأهم أنها تحبُّ العقل وتمقت العواطف، وتحتفى بالجادين الشجعان، وتزدرى البكَّائين المُغرمين بالشمَّاعات، والباحثين عن تلفيق التبريرات قبل العمل، وقبل تجربة كل الوسائل واستنفاد كل المحاولات.
ما إن أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات عن الجدول الزمنى أواخر سبتمبر الماضى؛ برز فريقٌ من المعارضة يتعلَّلون بضيق مُهلة الترشُّح وجمع التزكيات. بلغت الفترة المتاحة ثلاثة أسابيع، وكانت كذلك فى استحقاقى 2014 و2018، وفى الأول لم يعجز حمدين صباحى عن تأمين العتبة الانتخابية وخوض المُنافسة. كان الجميع يعلمون اقتراب الموسم الرئاسى، وعندما طلبوا تمديد الإشراف القضائى بصيغة «قاضٍ لكل صندوق»، كان جَليًّا أن العملية ستتحرَّك زمنيًّا إلى ما قبل 17 يناير 2024، أى أنها ستكون بين أكتوبر وديسمبر. المنطق يقضى بأنهم بدأوا الاستعدادات مُبكّرًا، على الأقل لأن مطلبهم فى «الحوار الوطنى» يفرض ضغط الوقت وتقديم الإجراءات. كما أنه يصعب الحديث عن حملة رئاسية جادة من دون فريق عمل يتجاوز خمسة وعشرين ألفًا المطلوبة من نماذج التأييد، أو دون قاعدة علاقات برلمانية تضم عشرين نائبًا من مجلس فيه قرابة 174 بين مُعارضةٍ ومُستقلّين. ربما لا يكون التخفِّى وراء ورقة الوقت مُقنعًا؛ إنما يُمكن تفهُّم دوافعه فى سياق لعبة الانتخابات، وهى لا تخلو من مُناورة ومحاولات ضغطٍ وابتزاز، وفى أحسن الفروض يكون مقصودًا منه التبرير الاستباقى للإخفاق حال وقوعه، من أجل التوازن النفسى أو تثبيت القواعد وترشيد منسوب الحرج. المشكلة أن الأمر تجاوز دقَّ المسمار فى الحائط على أمل تعليق النتائج السيئة مُستقبلاً؛ بل تحوَّل من ورقةٍ احتياطية إلى آليّة دائمة، ووجَّهت بعض القوى المدنية كامل طاقتها لترسيخ الحجَّة بالبيانات والتصريحات ومنشورات «السوشيال ميديا». ثم انتقلت منها إلى خطوة مُتقدّمة لإثارة الغبار حول أنشطة التزكية ونماذج التأييد؛ رغم أن أحد وجوه المعارضة، فريد زهران رئيس الحزب المصرى الديمقراطى وعضو الحركة المدنية، وصل للعتبة المطلوبة بعد أربعة أيام فقط من مُؤتمر الهيئة، وقبل فتح باب الترشح رسميًّا.
التفرُّغ لإثارة اللغط، دفع الهيئة الوطنية للانتخابات إلى الدخول على الخطّ بحسمٍ؛ فأصدرت بيانًا من ست نقاط آخر الأسبوع الماضى، قالت فيه إنها تُتابع تنفيذ قراراتها وفق مُقتضيات الدستور، وتأكَّدت من عدم وقوع أيّة مُخالفات أو مُحاباة وتضييق فى مراكز التوثيق، ومع تفهُّمها للأجواء التنافسية؛ فإنها تترفّع عن صغائر الأمور وترفض الزج بها فى المُناكفات، وكان أهم ما جاء فى بيانها دعوة المعنيِّين إلى التقدُّم لها بأيّة وقائع مدعومة بأدلّةٍ دامغة؛ ثمّ بعد أيام تجدّد حديثها للرأى العام عن أمور تخص التكدّس وتعطّل بعض الأنظمة، مع توجيهات بتعزيز اللوجستيات وتمديد ساعات العمل. المعنى أن ما أُثير فى المنصَّات وتلقّفته بعض وسائل الإعلام الخارجية كان مجرّد أحاديث عارضة، وليس شكايات بوقائع مُوثّقة ترقى لدرجة الجدّية المُوجبة للفحص واتخاذ إجراءات استثنائية. كما لا معلومة عن محاضر أو بلاغات أمام الجهات الأمنية أو النيابة العامة. الهيئة كيانٌ مُستقلّ يُديره شيوخ القضاء، وهى الأصل الذى يتفرّع منه الإشراف القضائى الكامل على الاستحقاق، كما طلبت الأحزاب وفى قلبها المُعارضة؛ أى أنها جهة مُحايدة ومحل اتفاق، ومن تلك القيمة المعنوية فإن بيانها له قيمة مُؤسّسية تعلو مُشاحنات الأفراد وتُقيم الحجّة على كل الأطراف، وتضع الأحاديث المُتردّدة فى مقام الدعائية ومناورات الضغط السياسى. لكن لجوء بعض قطاعات المُعارضة لتلك الخطابات لا يكشف عن اعتماد أدواتٍ قديمة فقط؛ إنّما يُبشّر بما يمكن أن تسير إليه مُستقبلاً من طعن فى العملية الديمقراطية، وهو مسلكٌ وإن كان مُعتادًا فى السابق فإنه لا يُناسب السياق الراهن، انطلاقًا من احتكامهم للقضاء ونزول السُّلطة على رغبتهم، أى أن الاستحقاق يجرى وفق شروط وضمانات يرون أنها كفيلة بتأمين لجانٍ مُنضبطة وصناديق نزيهة، ولن يكون الانقلاب على تلك الصيغة إلّا إيغالًا فى لعبة الكيد والابتزاز بمنطقها القديم، وحال حدوثها مع غياب التوافق بين المعارضة، وصراعاتها الداخلية وتلاسُنها وعجز أحزابها وانحسار شعبيتها، فضلاً على تنسيق بعضها مع الإخوان، أو رماديّة آخرين فى إبداء موقفهم من الجماعة؛ ستكون تلك الدعايات إدانةً لرافعيها أكثر من كونها طعنًا فى التجربة.
«الشركة المتحدة» أصدرت بيانًا مهمًّا قبل أيام، قالت فيه إنها تقف على مسافة واحدة من كلّ المُرشَّحين للرئاسة، وستنفتح على أخبارهم وأنشطتهم خلال مرحلة الدعاية، فى كل إصداراتها التى تتأهَّب لتقديم أوسع تغطيةٍ للاستحقاق السياسى الأرفع. النقطة الجوهرية التى تغيب عن أذهان البعض، ووضع البيان يده عليها بدقّةٍ ووضوح؛ أن كل راغب فى الترشُّح ليس مُرشَّحًا بالضرورة. من حقّ كل مواطنٍ مُتمتّع بحقوقه السياسية وتنطبق عليه الشروط، أن يتطلَّع للمنافسة على رئاسة مصر؛ لكنه لا يصير مُنافسًا فعليًّا إلا باستكمال الإجراءات وتحصيل العتبة المطلوبة من النواب أو الجمهور. إنّ المواكبة الإعلامية للحدث فى بدايته تستوجب مُراعاة اعتبارات مُهمّة، تقع العدالة وتكافؤ الفرص فى القلب منها؛ إذ ليس من مهمّة الإعلام أن يُوزّع بطاقات الوجاهة أو يُمارس الدعاية الاستباقية لكلّ شخصٍ يُبدى رغبته فى الترشُّح؛ فيُساوى بين من اجتهد وأرسى جسورًا مع الناخبين أو النواب، ومن يتقدَّم بمجهوليّته ليُثير اللغط أو يبحث عن الذيوع. جرّبنا شيئًا من ذلك فى انتخابات 2006 مع بعض الباحثين عن الشهرة والدعم المالى، وفى انتخابات 2012 وبعضهم كانوا «أحصنة طروادة» التى تسرَّب منها الإخوان بتفتيت الأصوات حتى ابتلعوا السلطة. الحدّ الأدنى المطلوب أن تتوافر الجدّية، وأن تكون بطاقة الترشُّح حصيلةَ جهدٍ فردى أو حزبى، وتحصيلاً لتراكُم العمل الجاد فى السياسة والاتصال بالناس، ثم بعد ذلك يكون التناول الإعلامى على أرضٍ مُحايدة بين مُتساويين، ومن أجل عدالة المُنافسة وإفساح مُتّسع لعرض البرامج والأفكار، لا لمُجرّد الفرقعة الأيديولوجية والدعائية، وللمُناكفة وتمرير المناورات، وإثارة نزعات شعبويّة وحنجورية كما يحدث الآن.
خلال الأيام الماضية، أطل أحد المُرشَّحين فى لقاءاتٍ وحوارات مع وسائط محلّية ودولية. كان الخطاب عموميًّا وإنشائيًّا فى أغلبه، وعندما تطرّق إلى التفاصيل كشف عن خللٍ فى الرؤية وتناقضات فى المواقف والأفكار. ليس من دور الإعلام أن يُمرّر الأغاليط أو يكون «شاهد زُور»، وإن اصطدم بتلك النوعية من الرسائل فعليه تفنيدها والردّ عليها، وتطويق صاحبها بمزيدٍ من الأسئلة. لو حدث ذلك الآن فسيكون شمَّاعةً جديدة يُعلّق عليها ملابسه المُتّسخة، وقد يُوظَّف دعائيًّا لاختلاق فصلٍ جديد فى سرديّة الحصار والتضييق. هذا التصوُّر ليس ضربًا للوَدَع أو مُصادرةً على احتمالات الوقائع؛ إذ قيل فعلاً من مؤيّديه عن ظهوره الأخير أنه كان استهدافًا مُخطّطًا، وأنّ مُحاوريه مُنحازون ومُموّلون وينصبون الفِخَاخ للمُعارضة، رغم أنهم حضروا تحت لافتة «موقع معارض» ومحسوب على التيار نفسه، بالقُرب الفكرى وتطابُق الخطابات على الأقل. كشف اللقاء عن ثغراتٍ حقيقية فى مسائل الاعتقاد والحرّيات، وعن التباسٍ مقصود فى النظر إلى الإخوان رغم إدانة آلاف من عناصرهم فى جرائم ملموسة، وتجريم التنظيم نفسه ووضعه على لائحة الإرهاب. تلك حلقةٌ جديدة فى سلسلة المُناورات، فمن الضغط وابتزاز المُؤسَّسات بخطابات الوَصْم والتشويه، إلى مُغازلة الجماعة الإرهابية بالاتصال المُباشر ثم بالمواقف الرماديّة، نخلُص إلى رغبةٍ فى تطويع البيئة الداخلية لصالح تمرير مشروع يتطلَّع لاصطفاف بقايا الرجعيّة خلفه فى اللجان والصناديق.
لو اتّخذنا «راغب الترشُّح» المُشار إليه نموذجًا للنقاش. يبدو واضحًا أنه يعتمد نهجًا استعراضيًّا، ولا يخلو أداؤه من تعالٍ واضحٍ على الصحفيين، حتى المُتطابقين معه فكريًّا. وهو إمّا بدافع نقص الخبرة، أو إدمان الشعبوية والرهانات الانتهازية، يتعمَّد الذهاب إلى عناوين تُدغدغ العواطف من دون معانٍ ناضجة ومُكتملة. فى السابق تصدَّى لقانون يُجرّم ختان الإناث، وفى آخر حواراته تحدَّث عن قُيودٍ على ممارسة الاعتقاد، وبينهما التقى مندوبًا عن الإخوان، وتهرَّب داخل تيّاره وفى لقاءات علنية من تحديد موقفه من الجماعة، وعندما أعلنت دعمَه حاول الالتفاف على الأمر بادّعاء أنه غير مسؤول عن المُتقدّمين لمُساندته، رغم أن الإسناد جاء بعد مُقابلةٍ واتصالات ورسائل غزل مُتدفّقة فى الاتجاهين طوال شهور. وبعد كل ذلك كان أوّل الشاكين من ضيق مُهلة الترشُّح، وأول الزاعمين بالتعرُّض للتضييق، رغم أن تيّاره اختلف عليه وتقدَّم اثنان غيره للسباق، ولم يُعجبهم أنه اتّخذ قراره من عاصمةٍ عربية بعد لقائه المشبوه بأجير الإخوان، وبينما يشكو ويتباكى وصل منافسه من داخل الائتلاف إلى عتبة الانتخابات دون ضجيج، ورغم الحملة الإخوانية الشعواء عليه، إلى حدّ تزوير أوراق تُحاول الطعن فى سلامة موقفه القانونى.
يُفتَح باب الترشُّح رسميًّا خلال ساعات. ثلاثةٌ من الراغبين وصلوا للعتبة المطلوبة، وجمعت الأحزاب الداعمة للرئيس آلافًا من نماذج التأييد فى كلّ المحافظات، فضلاً عن مئات التزكيات البرلمانية. فى الحدّ الأدنى يستعدّ المصريون لاستحقاقٍ يتنافس فيه أربعةُ مُرشَّحين، وقد تُضيف الأيام المُقبلة مزيدًا من الأسماء إلى بطاقة الاقتراع. النتيجة ليست نهاية المطاف؛ إذ الرهان على ما بعدها أكبر ممّا قبل، ومن الانتخابات نفسها، وتلك طبيعة السياسة، والمسارات الإصلاحية التى يعنيها التراكم المُتدرِّج أكثر من الانعطافات الحادة، وتنشغل بترقية المُمارسة وإنضاج الأداء، بدرجةٍ أكبر من انشغالها بالشعبويّة والبطولات المجانية الزائفة. تجربة «الحوار الوطنى» على ما فيها من مصاعب وتحدّيات، أفرزت مناخًا توافقيًّا صالحًا لتثبيت تعاقدات سياسية جديدة، عُنوانها التعايش والبحث عن الوفاق والتشاركية تحت مظلّة 30 يونيو، وما يزال فى جعبة «الحوار» عناوين وموضوعات يتلاقى عليها الطّيف الحزبى والأيديولوجى، كما أن التجربة قابلةٌ للتجديد وإعادة الإنتاج. النزاعات الصفرية سابقًا أوصلت الإخوان للسُّلطة، وأجبرت الشارع لاحقًا على التقدُّم لحَسْم الخلاف واستعادة المسار الوطنى من مخالب الرجعيّة الدينية؛ لكن تظلّ «الرجعيّة» بكل صُورها خطرًا يتهدَّد الصيغة المدنية وطموح المُمارسة الديمقراطية الناضجة، ولا ينحصر ذلك فى الأُصوليّة الإسلامية وحدها، إنّما يمتدّ لكلِّ خطابٍ ماضوىّ عاطل عن مُجاراة العصر، ومُتقوقع على ميراثٍ بالٍ تجاوزه الزمن. وإن كانت رجعيّة المُعمَّمين فخًّا يترصّد الحياة ويسعى لابتلاع الهويّة، فإنّ نظيرتها الحنجورية المُتمسِّحة فى التمدُّن أسوأ وأشدّ وبالاً؛ لأنها تُمارس الخديعة وتتحضَّر لافتراس الحداثة من داخلها، وهى فى ذلك تخلط القومى بالعقائدى، والحقوقى بالوصائى، والثورى بالسياسى، وتُلطِّخ الديمقراطية بالشعبوية، وتُفسِد الإصلاح بالصدام والتوهُّمات الرومانسية. كأنّ بعض السياسيِّين يُريدون تحصيل مكاسب لم يجتهدوا من أجلها، ويتصدّون بطفوليّةٍ ساذجة لأمورٍ من حصَّة العقل والوعى، ويدَّعون الجاهزية لبناء بلدٍ، وقد عجزوا عن ترميم أحزابهم وعصمتها من الانطفاء والتهدُّم. القطيعة مع الماضى ضرورة لا رفاهية، وأدنى درجاتها أن يُجيد السياسيِّون حرفةَ السياسة، لا أن يخرجوا لملعبها كأنهم يلعبون «الحِجلة»، وعلى ثيابهم طِين الطفولة وعَرَق الجرى فى الفراغ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة