- تظل قواتنا المسلحة على العهد درعا وسيفا وجيشا رشيدا يحمى ولا يهدد وسدا منيعا يحتمى به المصريون .. يوم من أيام المصريين وشاهد على هذا الرباط الذى يربطهم بقواتهم المسلحة.. 10 سنوات والأبناء فى الجيش على درب الآباء هزموا إرهابا فكك دولا وأدخلها فى الفوضى.. ومئات الشهداء وآلاف الجرحى والأرواح ثمن الأمن والاستقرار فى سيناء
غدا فى الثانية بعد الظهر تكمل انتصارات أكتوبر خمسين عاما، ونحتفل بالعيد الذهبى لانتصارات رجال صدقوا الوطن ما عاهدوه، النصر أو الشهادة، وقرروا بعد هزيمة يونيو ألا يعودوا إلا وقد استعادوا الكرامة والأرض.
50 عاما على عبور آبائنا قناة السويس وتحقيق نصر بدا مستحيلا، وبالرغم من كل هذه السنين، فإن القصة لم تكتب بعد، وما زلنا نكتشف الكثير من القصص والبطولات، أسطورة لكل جندى، وضابط، وصف ضابط، ظلوا طوال 6 سنوات يجهزون ويحفرون بأظافرهم، يستعدون تحت سمع وبصر العدو، بدأوها فور الهزيمة، وفى حرب استنزاف للعدو كانت تحمل أساطير مقاتلينا.
نصف قرن يحمل فى باطن أيامه قصة بطولة للشعب المصرى وأبنائه، الذين ضحوا وصبروا، وقدموا ما لديهم من أجل عبور لحظات الألم إلى فرح، وكل هذا بالروح والدم، وما زلنا نتذكر هذه الأيام كأنها بالأمس، وتحمل هذه الذكرى 5 مشاهد على مدى نصف القرن.
1 - يوم عادى يتحول إلى فرح مشوب بالحذر
السبت 6 أكتوبر 1973 كان يوما عاديا، توجهنا إلى المدرسة الإعدادية، يوم دراسى عادى، فقط قبل انصرافنا كانت هناك حركة طيران غير عادية فى القاعدة الجوية ببرما، على مرمى كيلومترات من بسيون بمحافظة الغربية، عدنا من المدرسة وبدأت أدخنة الأفران فى المنازل تنطلق لتجهيز طعام إفطار اليوم العاشر من رمضان، نسلى صيامنا بمحاولة غير مجدية للمذاكرة.
بعد الظهر، بدأت البيانات العسكرية عن اشتباكات مع طائرات العدو التى حاولت اختراق المجال الجوى، رأيت أبى يصعد على سطح منزلنا يحاول متابعة شىء غير عادى فى الجو، فى العصر كان بيان العبور، وبدأ آباؤنا يقلبون فى إذاعات العالم، بعد الإفطار تأكدت الأنباء من محطات الإذاعات الأجنبية عن عبور المصريين.
كانت مشاعر الفرح ظاهرة لدى آبائنا وأهلنا، ممن عاصروا هزيمة يونيو، تلقائيا بدأ الناس يحتفلون، زغاريد فى الشوارع والبيوت وبين المهجرين من مدن القناة، تحديدا من بورسعيد، ممن تم إخلاؤهم بعد 5 يونيو، كان الفرح مضاعفا، بحجم تضحياتهم.
الآباء والأمهات يذهبون لبيوت الأهل ممن لهم جنود وضباط فى الجيش، كنوع من المساندة التلقائية، ظهر شباب ورجال متطوعون فى الدفاع المدنى، وأبى الذى كان موجها بالتربية والتعليم خرج ليجتمع مع نظرائه من النظار والمعلمين، والدفاع المدنى، ليدرسوا ما عليهم أن يفعلوه، وعاد كل منهم ليبلغ منطقته بالتعليمات، وأن يتم إطفاء النور ليلا، بعد الإفطار مع طلاء الشبابيك والزجاج باللون الأزرق، وما زال صوت جهورى يتكرر ليلا «طفوا النووور».
2 - تذكار حرب قطعة زجاج
14 أكتوبر.. على مدى أيام بعد العبور كنا نتابع الحرب من الإذاعة والتليفزيون، والصحف التى يعود بها أبى، تشرح تفاصيل المعارك والتى أصبحنا طرفا فيها، وعرفت بعد سنوات أننى كنت شاهدا على أكبر معركة جوية فى حرب أكتوبر «معركة المنصورة».
بسيون بمحافظة الغربية بالقرب من القاعدة الجوية فى برما، وتبعد عن قاعدة المنصورة الجوية شمال الدلتا، عرفنا بعد ذلك أن ما شاهدناه وعرفناه كان واحدة من أكبر المعارك الجوية بعد الحرب العالمية الثانية، حاولت الطائرات الإسرائيلية شن هجوم، لكن النسور المصرية والدفاع الجوى تصدوا ببسالة، واستمرت المعركة 53 دقيقة، طائرات العدو هاجمت فى موجات، بأكثر من 100 طائرة فانتوم وسكاى هوك، وقدرتها بعض المصادر بـ165 طائرة مقاتلة، وخسر الإسرائيليون 17 طائرة، مقابل 3 طائرات مصرية.
أكثر من طائرة إسرائيلية سقطت فى الحقول القريبة، رأيناها وهى تتهاوى، جرينا بالمئات لما يقرب من خمسة كيلومترات وزيادة وكانت أجزاء الطائرة متناثرة على مساحة واسعة، وكل ما أذكره أننى حصلت على قطعة زجاج سميكة، من زجاج الطائرة، ظللت لشهور أخرجها لأتفرج عليها بانبهار، لذكرى واحدة من أعظم معارك الجيش المصرى، التى صنعت صورته فى عقولنا الصغيرة وقتها، وتكرر مشهد سقوط الطائرات فى حقول وشوارع الدلتا وذهاب الناس للفرجة وأخذ تذكارات، ضاعت قطعة الزجاج والتذكار، وظلت ذكرى هذه المعركة فى ذاكرتى، وكلما جاءت ذكرى أكتوبر عدت لساعات الحرب فوق سماء بسيون.
3 - ثلاث صور خلدت الانتصار
ما بعد أكتوبر.. بعد شهور من الانتصار بدأت الصحف والإذاعات والتليفزيون تذيع تفاصيل بطولات مقاتلينا التى تقترب من الأساطير لجنود وضباط صنعوا هذا الانتصار، وبرزت ثلاث صور خلدت الانتصار، محمد العباسى أول من رفع علم مصر بعد عبور القناة، وخلدته أغنية «محمد أفندى رفعنا العلم»، والبطل عبدالرحمن أحمد عبداللاه القاضى، وصورته يرفع البندقية باليمين ويضم قبضته الشمال ويصرخ فرحا، والبطل محمد طه، صاحب أشهر علامة نصر، كانت هذه الصور أيقونات وراء كل منها قصة تصلح موضوعا لفيلم، ثم إنها دليل آخر على بطولات المصورين والمراسلين العسكريين الذين كانوا يدا بيد مع أبطال القوات المسلحة، وبعضهم استشهد أو أصيب.
«محمد أفندى رفعنا العلم، وطولت روسنا ما بين الأمم»، أغنية ترددت فى الشوارع بعد العبور ظنها البعض أسطورة شعبية، لكنها كانت قصة محمد العباسى، من قرية القرين بمحافظة الشرقية، «بعدما سيطرنا على النقطة الحصينة كنا فرحانين، عبرنا الألغام والحواجز والقصف، وأصبحنا على أرض سيناء»، «قال قائد الكتيبة ناجى الجندى: مبروك يا محمد مبروك يا حسين مبروك يا على.. يا عباسى، خد العلم وارفعه.. أخدت العلم بفرحة جامدة ومسكته وطلعت على السارى نزلت العلم الإسرائيلى وقطعته ودوسته برجلى وبدأت أرفع علم مصر».
الأيقونة الأخرى للبطل عبدالرحمن القاضى، من المراغة بسوهاج، إحدى أيقونات العبور، صورته على الجبهة ممسكا بسلاحه باليد اليمنى، رافعا قبضته اليسرى، صارخا بأعلى صوته فرحا بعبور قناة السويس، والصورة تنطق، والصورة الأيقونة التقطها المصور شوقى مصطفى أحد المصورين العسكريين وسماها «فرحة مصر» يوم 7 أكتوبر 1973، لتصبح واحدة من أيقونات العبور.
الصورة الثالثة للبطل محمد طه، صاحب أشهر علامة نصر التى تختصر العبور بالكامل، وروى أكثر من مرة قصة الصورة الأيقونة، حيث أصيب رفيق السلاح بدانة بترت ساقه: «تطوعت أن أحمله، وحمل زميلى الساق المقطوعة وعبرنا قناة السويس سباحة، إلى غرب القناة وقابلنى مراسل صحفى هو المرحوم «فاروق إبراهيم» من أخبار اليوم، وبتلقائية شديدة، ظهرت الإشارة بالسبابة والوسطى وإخفاء باقى الأصابع فى قبضة اليد، تمثل شكل خريطة سيناء، السبابة تمثل خليج العقبة، والوسطى تمثل خليج السويس، ويحتضنان أرض سيناء، الصورة تقول: «سيناء أصبحت فى أيدينا»، وكان ذلك يوم 7 أكتوبر فى الفترة بين العصر والمغرب.
4 - فى معرض الغنائم شاهد على أيام جيش مصر
بعد العبور بشهور فى يناير 1974 فى معرض الغنائم بأرض المعارض فى الجزيرة، حيث دار الأوبرا المصرية الآن، كنت وزملائى وأساتذتى فى رحلة مشتركة لتلاميذ الابتدائى والإعدادى إلى معرض الغنائم تحت مطر خفيف، المعرض كان مزدحما بالزوار، رحلات من مدارس مصر وجامعاتها ومواطنون، المرة الأولى التى أرى فيها كل هذا الكم من الأسلحة، فى مكان واحد، دبابات وعربات مدرعة ومدافع ودانات وقنابل، مدافع وطائرة إسرائيلية كاملة تمت إعادة تركيبها فى ساحة المعرض وظلت سنوات بعد انتهاء المعرض، أسلحة بعضها لم يستخدم.
كنا مبهورين بمشهد الدبابات والطائرات والمدافع وصور أسرى العدو بالبيجامات، قفز الأستاذ محمود إلى داخل الدبابة ونادانا أن ندخل لنتفرج على الدبابة التى اغتنمها أبطالنا من الإسرائيليين، ووجدت نفسى داخل كابينة الدبابة، وأشعر بأنفاس جنود إسرائيليين قبل أن يفروا.
قال الضابط وهو يشرح بفخر، إن الجنود الإسرائيليين هربوا من الرعب وتركوا أسلحتهم سليمة، كان الضباط يشرحون بفخر ويجيبون عن أسئلة الرواد بابتسامات وتعليقات.
بعد سنوات عرفنا قصصا وبطولات تؤكد الإرادة لدى أبطال القوات المسلحة وراء النصر، يواجهون الدبابات بالآرى بى جى وبصدور عارية، عبدالعاطى صائد الدبابات وأبطال الصاعقة البحرية، وزملاؤهم من القوات الخاصة ممن سبقوا العبور ونجحوا فى إغلاق مواسير النابالم التى تصب جحيما على شاطئ القناة، وعلى جنود الصاعقة الذين أصروا على إغلاقها بأيديهم وأجسادهم قبل أن يبدأ العابرون، هناك قصة اللواء باقى يوسف، صاحب اختراع تذويب الساتر الضخم بخراطيم المياه، أو الصول إدريس مبتكر الشفرة النوبية للإشارة، وغيرهم، إنها حرب كل من شارك فيها أبطال.
مرت أيام الحرب وتكررت مشاهد وداع الشهداء، وعاد الجنود والضباط إلى أعمالهم، وبعضهم مصابا بشظايا أو حروق أو أطراف صناعية، وتغيرت الدنيا، وتركت الكثير من الحكايات التى صنعتها أرواح شهدائنا وأرواح من بقى منهم تحمل ذكريات النصر، شاهدة على هذا الرباط الذى يربط جيلنا بقواتنا المسلحة، وصورة الجيش فى قلب كل مصرى، عندما أذابوا الجبل وواجهوا النار.
هناك قصة لكل جندى وضابط وصف ضابط يجب توثيقها.. حكايات لأفراد من الضباط والجنود يروون تفاصيل عن معارك وأحداث ووقائع حية شهدوها أو كانوا طرفا فيها، شهادات لها قيمتها، يفترض أن تضم إلى القصة الكبيرة للملحمة، فى اليوبيل الذهبى لأبطال من ذهب.
5 ـ يوم الشهيد.. نهاية الإرهاب وسلسال الأبطال
9 مارس 2023 كان الاحتفال بيوم الشهيد، ذكرى اليوم الذى استشهد فيه الفريق عبدالمنعم رياض على الجبهة بين مقاتليه، 1969، نظمت القوات المسلحة احتفالية تم خلالها تكريم أسماء وأسر شهداء القوات المسلحة، والتى حملت رسالة «الثمن»، وتم استعراض بطولات أسطورية لضباط وصف ضباط وجنود، فى مواجهة الإرهاب، الذى دمر دولا، لكنه انكسر على صخرة بطولة القوات المسلحة والشرطة وأبناء سيناء، وثبات الشعب على قلب واحد، تأكيدا لكون البطولة فى جيش مصر جيلا بعد جيل، وأن من واجهوا المحتل فى سيناء، واجهوا الإرهاب الأسود على نفس الأرض.
أكد الرئيس عبدالفتاح السيسى، أن الأمن الذى تشهده مصر حاليا كان ثمنه دماء وأرواحا وتضحيات الشهداء، وأننا لا يجب أن ننسى الثمن من دماء أبنائهم، ولن ننسى كل شهيد وكل مصاب قدم جزءا من جسده فداء للوطن، وحتى يصنع لنا الأمان والاستقرار، حيث واجه أبطالنا الإرهاب على مدى 10 سنوات وتحتفل سيناء بنهاية الإرهاب، مليار جنيه شهريا لمدة 90 شهرا، ومئات الشهداء وآلاف المصابين، ووعد بأن يكون الاحتفال بنهاية الإرهاب فى سيناء بحضور أسر الشهداء، ومعرض للأسلحة والأجهزة والمتفجرات، مؤكدا الدعوة للانتباه والحفاظ على ما تم، وضمان عدم عودته.
غدا 6 أكتوبر 2023 هو اليوبيل الذهبى للعبور العظيم، حيث ظلت قواتنا المسلحة على العهد درعا وسيفا، وجيشا رشيدا يحمى ولا يهدد، وسدا منيعا يحتمى به المصريون، ويبنى ويقدم الأبطال.