ربما كان "الإقصاء" هو الصورة المضادة للديمقراطية، التي طالما روجت لها الولايات المتحدة، وبشرت بها لعقود طويلة من الزمن، خاصة عندما يرتبط الأمر بتقييم الأوضاع لدى خصومها، وذلك بالرغم من اختلاف التهديدات التي قد تتعرض لها الدول، خاصة إذا ما كانت الجماعة أو الجماعات التي تتعرض لمثل هذه الآليات، تمثل تهديدا صريحا للاستقرار والأمن في دولهم، إلا أن الملفت في السنوات الأخيرة يبدو في استخدام الأقصاء، في الداخل الأمريكي، مع احتداد المنافسة بين الحزبين الرئيسيين (الديمقراطي والجمهوري)، فتحول إلى سلاح يمكن من خلاله تهديد المسؤولين المعرضين لـ"العزل" حال انتهاجهم سياسات لا تتواكب مع الرؤى التقليدية، التي طالما تبنتها واشنطن لسنوات طويلة.
الحديث عن "العزل" ربما ليس بالأمر الجديد تماما، حيث سبق لمسؤولين أو بالأحرى رؤساء أمريكيين تعرضوا لمحاولات الإقصاء من مناصبهم، من بينهم أندرو جونسون، وبيل كلينتون ودونالد ترامب، وأخيرا جو بايدن، بينما لم تنجح المحاولة إلا مع ريتشارد نيكسون، في السبعينات من القرن الماضي، على خلفية ما يمسى بـ"ووتر جيت"، والتي قام فيها بالتجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي، في إطار معركة الانتخابات الرئاسية لعام 1972، بسبب صعوبة موقفه، مما دفعه إلى الاستقالة، بعدما كان قرار عزله محتوما في نهاية المطاف.
إلا أن الملاحظ في قائمة ألمسؤولين، وخاصة الرؤساء الأمريكيين، الذين تعرضوا لمحاولات الإقصاء، أن ثمة فارقا زمنيا تنازليا فيما بينهم، حيث يبقى الفارق بين محاولة عزل جونسون ونيكسون ما يزيد عن 100 عام، وبين نيكسون وكلينتون حوالي 27 عام، في حين كانت 20 عام كافية للحديث عن عزل ترامب، وأما الحديث عن عزل بايدن فارتبط بشهور قليلة من توليه السلطة خلفا لدونالد.
ولكن تبقى الحقبة الحالية هي الأكثر زخما في الحديث عن العزل في التاريخ السياسي الأمريكي، في ظل مساع حثيثة للاستهداف، ربما ليس فقط على مستوى البيت الأبيض، وإنما فيما يتعلق بالداخل الحزبي، وهو ما يبدو مؤخرا في إقصاء كيفن مكارثي، من منصبه كرئيس لمجلس النواب الأمريكي، على يد الجمهوريين الذين يمتلكون الأغلبية، وذلك بالرغم من انتمائه لهم، وقبله بشهور، عندما قررت نانسي بيلوسي التخلي عن زعامة الديمقراطيين في المجلس نفسه، وهو ما يحرمها من فرص العودة إلى المنصة مجددا، حال فوز حزبها بالأغلبية في الانتخابات المقبلة والمقررة في 2024، وهو ما يبدو قرارا طوعيا، إلا أنه يحمل في طياته خلفيات عميقة من الخلاف، بالنظر إلى توقيته، حيث جاء في أعقاب زيارة أجرتها إلى تايوان، في استفزاز صريح للصين، وكذلك بعد لقاء بين الرئيس بايدن ونظيره الصيني شى جين بينج في سنغافورة في نوفمبر الماضي.
وفي الواقع، يبدو الحديث المتواتر عن "العزل" في الولايات المتحدة، مثيرا للعديد من التساؤلات، خاصة المتعلقة بالمستقبل السياسي للأحزاب الأمريكية، بل والعملية الديمقراطية برمتها، في ظل اعتماد ما تؤول إليه العملية الانتخابية، كأساس وحيد للشرعية، وبالتالي يبقى الخروج عليها، سواء عن طريق "العزل"، عبر ملاحقة الخصوم بالقضايا، على غرار ما يحدث مع ترامب، في محاولة لمنعه من خوض الانتخابات المقبلة، أو مع بايدن، في ظل استغلال قضايا نجله، أو حتى مع مكارثي، والذي أغضب بني حزبه، بسبب صفقته مع الديمقراطيين حول تجنب الإغلاق الحكومي، جراء ما تعانيه الإدارة من أزمات اقتصادية كبيرة.
ولعل المشهد الأخير، والذي يمثل نتيجة مباشرة للمشاهد المتواترة التي طغت على الأوضاع في الولايات المتحدة على النحو سالف الذكر، يعكس أن ثمة ارتباطا طرديا بين الديمقراطية، في صورتها المثالية، التي روجت لها واشنطن، والرفاهية الاقتصادية، وهو ما يعكس حالة الاستقطاب المجتمعي التي شهدته أمريكا في السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ عام 2016، عندما حقق ترامب فوزا يبدو معجزيا على هيلاري كلينتون، رغم فارق الخبرات السياسية بينهما لصالح الأخيرة، ثم الفارق الضئيل بينه وبين بايدن في الانتخابات الأخيرة، والتي أسفرت نتيجتها عن اقتحام الكونجرس، في يناير 2021، والذي يتنافى بشكل تام عما دعت إليه واشنطن لسنوات وسنوات، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن تطبيق الفكرة مرتبط بأوضاع أخرى، ربما تبدو في الاقتصاد، إذا ما تحدثنا عن النموذج الأمريكي، بينما تحمل في طياتها أبعادا أخرى، على غرار الثقافة والبيئة المحيطة، وحجم التهديدات الأمنية التي قد تتعرض لها البلدان.
وهنا يمكننا القول بأن عزل كيفن مكارثي، يمثل مؤشرا مهما على بزوغ مفهوم "الإقصاء" في السياسة الأمريكية، ليس بسبب كونه يحدث لأول مرة في التاريخ، وإنما باعتباره يمثل مرحلة جديدة من مراحل المخاض، التي تشهدها القوى الكبرى في العالم، في ظل انقسام صريح داخل المجتمع، ومحاولات صريحة لاستهداف المسؤولين، وإقصائهم عن مناصبهم، وهو ما يمثل "بقعة" على ثوب الديمقراطية الأبيض، الذي طالما روجت له واشنطن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة