اليوم هو ذكرى اليوم المشهود والساعات الفارقة فى تاريخ مصر ومصيرها ومصير شعبها وأمتها العربية، ذكرى العبور إلى النصر وإلى الأمل والغد والمستقبل، فى معركة الكرامة والشرف واسترداد الأرض.. عبرنا الهزيمة واليأس والانكسار والذل والعار، ورفعنا رؤوسنا فى عزة وكبرياء، وطارت راياتنا عالية خفاقة فوق سيناء، وروت الدماء الطاهرة رمال أرض الفيروز تضحية وفداء.
سيبقى يوم 6 أكتوبر علامة فارقة وحاسمة ومؤثرة فى التاريخ السياسى والعسكرى لمصر والمنطقة وللعالم أيضا.. يوم المجد العظيم لمصر والأمة العربية التى راهن العدو أنه لن يقوم لها قائمة ولن يستطيع الجيش المصرى أن يحارب إلا بعد 50 عاما من هزيمة 67، وأنه ينتظر رسالة الاستسلام.
فاجأهم الجندى المصرى بعزمه وعزيمته وقوته وقدرته على التحدى والقتال، وفى أقل من 7 سنوات عبر إلى الضفة الشرقية، ليحطم أسطورتهم الزائفة وأوهامهم الفارغة.. تساقطت الأوهام والأساطير تحت كعوب بنادق جنودنا البواسل، وسطروا ملحمة قتال أسطورية شهد بها العدو قبل الصديق، ودونها قادة العدو فى مذكراتهم وأمام لجنة التحقيق فى الهزيمة المعروفة بلجنة "إجرانات" التى ينبغى إعادة نشر تحقيقاتها مرة أخرى، ليعرف القاصى والدانى، ولتعرف الأجيال التى لم تعش تلك الأيام المجيدة حجم الهزيمة والإذلال والمرارة التى عاشها العدو فى حرب أكتوبر 73، وبالتحديد فى أول أيام المعركة بداية من يوم 6 أكتوبر.
تفاصيل المعركة والاستعداد لها كثيرة جدا، كانت خير دليل على حسن التخطيط والإدارة والتنفيذ على مستوى وطن بأكمله.. جيشا وشعبا، وكانت هى مفاجأة النصر.
ربما دارت أسئلة كثيرة حول سر اختيار يوم 6 أكتوبر وفى وضح النهار كموعد لانطلاق المعركة..؟ ومن صاحب الفكرة والميعاد؟
فى معركة النصر كان كل صاحب فكرة من أصغر جندى الى أكبر قائد يصغى إليه الجميع، والأمثلة كثيرة، المهم أن الفكرة تخدم الهدف الأسمى فى المعركة.. وهنا كان صاحب اقتراح يوم 6 أكتوبر هو أحد ابطال النصر اللواء صلاح فهمى نحلة، رئيس فرع التخطيط بهيئة عمليات القوات المسلحة، وصاحب قرار ساعة الصفر.
بدأ اللواء فهمى صلاح وبتكليف من المشير عبد الغنى الجمسي -اللواء وقتها - وكان رئيسا لهيئة عمليات القوات المسلحة، قبل تكليفه برئاسة أركان حرب القوات المسلحة وترقيته إلى رتبة الفريق- بدراسة أنسب يوم وساعة للحرب، وقبل أى تفكير عكف أياما طويلة على قراءة ظروف الجو بالمنطقة وجغرافية سيناء كاملة أى مسرح المعركة، والوقت الذى تستغرقه مصر لتنفيذ العملية العسكرية وعبور القناة، وفى المقابل الوقت الذى تستغرقه إسرائيل لتنفيذ أول رد فعل.
اختيار يوم 6 وشهر أكتوبر كان الوعد المناسب على أساس حالة المد والجزر وسرعة التيار فى قناة السويس، على اعتبار أنه أصعب مانع مائى عسكريا فى العالم، وأهم عقبة فى طريق عبور القوات فى حالة العبور فى وقت غير مناسب للمد والجزر، ودراسة تأثير هذه الظواهر على وسائل العبور.
فى هذا اليوم وما يليه يكون فيها ضوء القمر ساطعا فى نصف الليل من اليوم، ومظلما فى نصف الليل الآخر، بحيث تتم عملية بناء الكبارى على ضوء القمر وعبور المجنزرات فى الظلام.
تم تحديد 3 مواعيد فى مايو وأغسطس وأكتوبر، لكن كان الأنسب هو 6 أكتوبر بالنسبة للعوامل السابقة، بجانب أن نهاية الشهر كانت انتخابات الكنيست الإسرائيلى، ما يكون له تأثير فى استدعاء الجيش الاحتياطى، بجانب انشغال الدولة داخل إسرائيل فى ترتيبات الانتخابات. وأيضا كان شهر أكتوبر متزامنا مع شهر رمضان وقتها، وهى مناسبة إسلامية لا يتوقع فيها حدوث عملية هجوم شاملة.
علاوة على ذلك يوم 6 أكتوبر كان عيد الغفران، وهو يوم فى حد ذاته مختلف عند اليهود، وكان له تأثير مباشر فى استدعاء الجيش الاحتياطى، بمعنى أن عيد الغفران يتم فيه تعطيل وسائل الإعلام بما فيها الراديو، كإحدى وسائل استدعاء الاحتياط فى إسرائيل، وكوسيلة علنية لاستدعاء الاحتياط، وفيه وسائل أخرى لاستدعائهم.
تفاصيل اختيار اليوم والشهر والساعة يدل على درجة الكفاءة العسكرية فى التخطيط والإدارة والتنفيذ إلى أعلى مستوى لم يشهده تاريخ الحروب العسكرية فى العصر الحديث ولم يصل إليه.
كانت هناك تفاصيل أخرى لتلك اللحظات التى لن تنساها أبدا الذاكرة المصرية فى ذلك اليوم. ففى الساعة السابعة والربع يستيقظ الرئيس محمد أنور السادات من نومه، وكان أول ما فعله أن مد يده إلى سماعة التليفون، واتصل بالعقيد عبدالرؤوف رضا، مدير مكتبه للشؤون العسكرية فى ذلك الوقت، وكان قد انتقل ومعه مجموعة من ضباط أركان الحرب إلى مقر مؤقت يحتل ثلاث غرف فى بدروم قصر الطاهرة.
الرئيس «السادات» يشغله السؤال الذى نام به قبل ساعات: هل عرف العدو؟... وجاءه الجواب بأن العدو قد عرف، وهذا ظاهر من رد فعله على الجبهة. وكان هناك تقرير مختصر جاهز، وقد أعد للرئيس حالما يستيقظ. ووصل التقرير – كما روى الاستاذ محمد حسنين هيكل فى كتابه "السلاح والسياسة"- فى أقل من دقيقة إلى غرفة نوم الرئيس. قرأ الرئيس التقرير، ثم أعاد قراءته، وتناول قلماً ووضع خطاً تحت جملة «وتعتبر القوات الجوية الإسرائيلية حالياً جاهزة ومستعدة لتنفيذ مهام العمليات».
وهكذا عرف الرئيس السادات أن إسرائيل قد «عرفت»- وكان واضحاً بالنسبة له أنه حقق سبقاً على الأرض. ولكن الخطر الأكبر خلال الساعات القادمة، وحتى ساعة الصفر هو أن ينقض من الجو على شكل محاولة ضربة إجهاض يقوم بها سلاح الطيران الإسرائيلي.. وكان هذا الهاجس هماً ثقيلاً على فكره وأعصابه- ولم يكن يعرف أن هذا الاحتمال قد استبعد، وأن هذه الضربة الجوية الوقائية لن تقع، لأن مجرى الحوادث- فى هذه الساعات- كان يتخذ مساراً آخر فى تل أبيب وفى واشنطن.
فيما بين الساعة الثامنة وحتى الساعة العاشرة إلا الربع من صباح يوم السبت 6 أكتوبر- كان الرئيس «السادات» فى قصر الطاهرة وليس فى رأسه إلا سؤال واحد: هل توجه إسرائيل ضربة إجهاض بالطيران ضد الجبهة المصرية قبل الموعد المقرر لبدء الهجوم وبقصد تشتيت وبعثرة صفوفه؟
وفى اليوم نفسه تقريباً، وفى بيت رئيسة وزراء إسرائيل- كانت «جولدا مائير» ومعها مجموعة من أعضاء مجلس الوزراء المصغر- يناقشون نفس السؤال تماماً.
كان الرئيس السادات مشغولا بالسؤال وكانت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل فى ذلك الوقت، مهمومة بالجواب، ومن الغريب أن ردها كان بـ«لا»- متوافقاً بالضبط مع ما كان «أنور السادات» يتمناه، وإن اختلفت الأسباب لدى كل منهما.
فى الساعة الواحدة من بعد ظهر يوم السبت 6 أكتوبر وصل الرئيس السادات إلى مقر القيادة الرئيسى للعمليات. وقد توجه فور وصوله ومعه الفريق أول أحمد إسماعيل على إلى مكتب القائد العام- وهناك قضى بضع دقائق ألقى فيها نظرة على خرائط التخطيط، واهتم بالسؤال عن مواقع القطع البحرية التى تحركت قبلها بأيام فى البحر الأحمر وفى البحر المتوسط، ثم سأل عن أعداد قوات الصاعقة التى تسللت إلى سيناء بالأمس لإبطال عمل مواسير اللهب السائل الذى كان معروفاً أنه بند رئيسى فى الخطة الإسرائيلية لعرقلة أى عبور. وكان هذا البند فى الخطة الإسرائيلية من أهم وأخطر العقبات المضادة التى رتبت لها إسرائيل، فلو أن هذه المواسير ظلت سليمة وتدفق ما فيها من لهب سائل، واشتعل حريق فوق مياه القناة، لكانت تلك ضربة مزعجة لموجات العبور المصرى الأول، خصوصاً أنها تستعمل قوارب مطاطية لحمل مقاتليها من ضفة إلى ضفة أخرى عبر هذا المانع المائى الكبير.
دخل الرئيس السادات إلى قاعة العمليات فى الساعة الواحدة والنصف وكانت القاعة شحنة من الأعصاب، امتزج فيها الأمل والقلق والعلم والإيمان. فقد أحس كل من فيها من القادة والضباط- وعددهم يزيد على المائة- بأنهم يعيشون لحظة فاصلة فى تاريخ وطنهم، وأن أقداراً كثيرة سوف تكون معلقة بما يجرى فى هذه القاعة صادراً عنها إلى ميادين القتال أو وارداً إليها من هناك.
وفى الساعة الثانية بعد الظهر كانت الأنظار فى القاعة كلها متجهة إلى الجزء الخاص بالقوات الجوية.
وكانت الإشارات قد وصلت بأن قوات الضربة الجوية الأولى، وقوامها 200 طائرة، قد عبرت على ارتفاع منخفض فوق قناة السويس قاصدة إلى تنفيذ المهمة الأولى فى العملية. ثم بدأت الإشارات تترى بأن طائرات هذه القوة بلغت أهدافها وبدأت تنفيذ مهامها بنجاح فاق ما كان منتظراً، فقد تم ضرب مراكز قيادة ومواقع رادار ومناطق حشد وعقد مواصلات وقواعد جوية.
وفى الساعة الثانية وعشر دقائق كانت الأنظار فى القاعة متجهة إلى الجزء الخاص بالمدفعية. وفى نفس اللحظة كانت فوهات 2000 مدفع من مختلف العيارات والطرز تضرب بكل قوتها بعيداً وراء خطوط العدو لقطع عمقه عن جبهته، وتدمير ما يمكن من منشآته المتقدمة، وتشتيت ما هو متجمع من حشوده. وتلا ذلك قصف 600 مدفع ركزت على مدى قصير بضرب منشآت وتحصينات خط بارليف.
وفى الساعة 2.25 بدأت قوارب المطاط تنزل فى القناة بجنودها تحت وابل من نيران العدو الذى بدأ يفيق من المفاجأة. ومع ذلك فإنه فى ظرف عدة دقائق كان على صفحة القناة ما يقرب من 600 قارب مطاطى فى كل واحد منها 8 مقاتلين، وقد راحت تشق طريقها إلى الضفة الأخرى وسط عاصفة من النار.
وفى هذه اللحظة تأكد أن مجموعات الصاعقة التى دخلت بالأمس قد نجحت فى تعطيل عمل مواسير اللهب. وكان نجاحها فائقاً إلى درجة أنه لم يظهر لأى واحدة منها أثر على الإطلاق فوق مياه القناة.
وفى الساعة 2.25 أيضاً كان هناك لواء دبابات برمائى يعبر على القطاع الجنوبى من مياه القناة بالدبابات الضخمة من طراز «تى 76»، ووراءه المدرعات السابحة من طراز الـ«توباز» الشهير.
وفى نفس اللحظة عبرت فوق القناة مجموعة من الطائرات تحمل مجموعات من قوات المظلات الذين قفزوا بقرب منطقة المضايق تمهيداً وانتظاراً وإعداداً لمرحلة ثانية من الخطة.
وفى الساعة الثالثة كان مجموع القوات المصرية التى تمكنت من العبور إلى الضفة الشرقية قد وصل إلى 800 ضابط و13 ألفا و500 جندي.
وفى الساعة الثالثة والنصف كانت قوات المهندسين تعبر فى وحدات بحرية خاصة جهزت بالخراطيم وكانت المهمة الموكولة إليها هى فتح الثغرات فى الساتر الترابى على الضفة الشرقية من القناة.
وفى الساعة الرابعة والنصف كان حجم القوات المصرية على الضفة الشرقية قد وصل إلى 1500 ضابط و22 ألف جندي.
وفى الخامسة والنصف كان هذا الحجم قد وصل إلى 2000 ضابط و30 ألف جندي.
وفى الساعة السادسة والنصف كانت عملية فتح الثغرات فى الساتر الترابى قد حققت جزءاً كبيراً من مهامها، وبدأ تركيب كبارى العبور، وراحت الدبابات تتقدم على أول كوبرى جرى تركيبه.
وفى الساعة العاشرة مساء كانت قوات المهندسين قد تمكنت من فتح 60 ثغرة فى الساتر الترابى، وأزاحت بالتجريف ما حجمه 90000 متر مربع من الرمال، ووصل عدد الكبارى الثقيلة التى أمكن تركيبها إلى ثمانية، بالإضافة إلى أربعة كبارى خفيفة، و31 معدية كانت تتحرك بسرعة وقوة من ضفة إلى ضفة حاملة معها المزيد من القوات والمعدات.
وعندما حل منتصف الليل تماماً كانت هناك خمس فرق كاملة من المشاة والمدرعات على الضفة الشرقية لقناة السويس، وكانت معظم مواقع خط بارليف الحصينة قد حوصرت، ونصفها تم اقتحامه.