الثقة فى الله وفى قواتنا المسلحة الباسلة وما تحقق حتى مساء يوم السادس من أكتوبر 73 كان وراء الفرحة التى لاحت على وجه الرئيس السادات ووجوه القادة العظام فى قاعة غرفة العمليات، وكانت وراء النشوة التى ملأت صدورهم.. حالة لا تصدق بعد أن تأكد الجميع أن أخطر عملية فى الحرب كانوا يتحسبون لخسائرها قد تمت بنجاح فاق التوقعات والخيال.
فما حدث معجزة عسكرية بكل المقاييس.
لم ينس السادات ورفاقه من قادة المعركة كافة التقديرات والتوقعات والتحذيرات سواء من العدو "الاسرائيلي" أو من الصديق "السوفيتي" والتى قدرت حجم الخسائر بأكثر من نصف القوات المصرية بأسلحتها ومعداتها، فى حال مجرد تفكيرها فى اقتحام وعبور قناة السويس.
وكانت أروع لحظة فى حياتهم عندما تلقوا فيها أول تقدير مبدئى عن حجم الخسائر المصرية فى العملية حتى الآن.
كانت الخسائر فى عملية العبور هى استشهاد 64 مقاتلا إلى جانب 420 جريحاً وقد أصيبت 17 دبابة، وتعطلت 26 عربة مدرعة وكان ذلك لا يصدق.
تبادل الرئيس السادات ومن حوله من القادة النظرات وهم لا يكادون يتصورون واقع ما جرى أمام عيونهم من معجزة. وقال الفريق أول أحمد إسماعيل بزهو وفخر وثقة أن "الأولاد يتقدمون على الكبارى كما لو أنهم يقومون بعملية تدريب. وكأن كل هذه النيران من حولهم مجرد مناورة بالذخيرة الحية".
اطمأن الرئيس السادات إلى أن هناك شيئاً عظيماً تم تحقيقه. وكما يقول محمد حسنين هيكل فى كتابه "السلاح والسياسة" فقد اتصل به السادات، وطلب أن يلقاه الساعة الثامنة فى قصر الطاهرة. كانت نبرة صوت الرئيس مجلجلة كأنها زغاريد فرحة. وقد راح يكرر فى نفس واحد أكثر من ثلاث مرات: "الولاد ركبوا خط بارليف خلاص".
فى قصر الطاهرة كانت هناك مكالمات تليفونية عديدة من كثيرين فى العالم العربى، وصل إلى أسماعهم ما حدث، وأرادوا أن يتصلوا به تهنئة وتبريكا، وقد رد الرئيس السادات بنفسه على بعضها.
وفى الساعة الثامنة مساء كان «محمد حسنين هيكل» فى قصر الطاهرة لموعده مع الرئيس «أنور السادات» وقد لاحظ عند دخوله إلى الصالون الذى كان يجلس فيه الرئيس «أنور السادات» ويتلقى منه ما يختار من الاتصالات التليفونية- أن هناك مجموعة من رجال التليفزيون والإذاعة بميكروفوناتهم وعدساتهم. وعندما دخل «هيكل» على الرئيس «السادات» كان بادياً أن موجة من الفرح تتراقص بصالون القصر كله. وفى حين راح «هيكل» يسأل عن المزيد من التفصيلات- فإن الرئيس «السادات» كان له مطلب عاجل، هو إعداد «كلمة قصيرة» ولو من عشرة سطور تقول للناس ما معناه "أن حرب الساعات الست قد تحققت".
يصل السفير السوفيتى فينوجرادوف إلى قصر الطاهرة ويجتمع به الرئيس السادات. قدم السفير السوفيتى تهنئة القيادة السوفييتية وتهنئته. وسلم رسالة مكتوبة بلغة إنشائية وحماسية من الزعيم السوفييتى ليونيد بريجينيف وقد عاد الرئيس «السادات» فكرر مرة أخرى ما سبق أن قاله لـ«بريجينيف» على التليفون تعبيراً عن عرفانه بدور الاتحاد السوفيتى فى تحقيق «كل هذا النصر العظيم الذى حققناه اليوم».
سأله السفير السوفييتى عن تصوراته فيما يتعلق بالجانب السياسى فى المعركة، فالأمريكان قد اتصلوا بالسوفييت يتشاورون معهم فيما يمكن أن يفعله مجلس الأمن إزاء نشوب الحرب فى الشرق الأوسط، فهناك مشاورات واسعة بين الأربعة الكبار فى مجلس الأمن، ومعهم السكرتير العام للأمم المتحدة «كورت فالدهايم» وهناك أفكار غير محددة بعد عن مشروع قرار يقدم إلى مجلس الأمن فى شأن الأزمة، وهم يريدون أن يكونوا على علم مسبق بتصورات الرئيس حتى ينسقوا جهودهم مع مطالبه.
لم يكن الرئيس السادات مستعداً لهذا النوع من الحديث. قال لـ«فينوجرادوف» أن هذا موضوع لا يستطيع فى هذه اللحظة أن يبحثه وعليه أن يناقشه مع الدكتور محمود فوزى – وزير الخارجية الأسبق والذى اختاره السادات نائبا لرئيس الجمهورية حتى سبتمبر 74، فهو (أى الرئيس السادات) يتصرف الآن بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وأراد «فينوجرادوف» أن يتثبت فقال: «تعنى يا سيادة الرئيس أننى أستطيع مناقشة احتمالات العمل الدبلوماسى مع الدكتور محمود فوزى؟» ورد الرئيس «السادات» بسرعة: «نعم.. نعم.. ابحث معه كما تشاء".
وخرج السفير السوفييتى. وأشار الرئيس «السادات» باستدعاء «محمد حسنين هيكل»، الذى عاد إليه وقد جاء معه العقيد "عبدالرؤوف رضا" يحمل تقريره عن أول يوم من أيام القتال. وفى حين جلس «هيكل» بجانبه، وقف العقيد "عبد الرؤوف رضا" ينتظر أن يلقى الرئيس «السادات» نظرة على الملف الذى قدمه إليه.
كان الملف يحوى التقرير، وقد أرفقت به نسخة من منشور جرى توزيعه على القوات ساعة بدء العبور. كان التقرير مكتوباً باللغة الواقعية للبيانات العسكرية.
بعد أن فرغ العقيد «عبدالرؤوف رضا» من عرض ما لديه، غادر الصالون. وعاد الرئيس «السادات» إلى فكرة إعداد بيان يلقيه. وعاد «محمد حسنين هيكل» يحاول شرح وجهة نظره فى أفضلية الانتظار، كما أنه أبدى ملاحظة على المنشور الذى وزع على الجنود مؤداها:
إن صيحة «الله أكبر» التى انطلقت بها حناجر الجنود على جسور العبور كانت تكفينا صلاة ودعاء يشارك فيها كل المؤمنين، وهى فى كل الأحوال تغنينا عن كل الأحلام بما فيها «أحلام الصالحين".
وعند منتصف الليل كانت الأنباء مازالت تترى على قصر الطاهرة، وكانت كلها أنباء سعيدة. وكان القصر مازال يعيش على ذرى أمواج نشوانه بالفرح الغامر والسعادة الفائقة.
يصف هيكل تلك اللحظة قائلا: "من الصعب على أحد مهما بلغت درجة قربه من الحوادث أن ينفذ بتحليل دقيق أو قريب من الدقة للمشاعر والأفكار التى تحركت وتدافعت فى عقل وفكر الرئيس «السادات» فى تلك الليلة الحاسمة من تاريخه وتاريخ مصر، ومع أن التاريخ أيام متصلة يترتب اللاحق فيها على السابق دون فجوة أو فراغ- فإنه من المحقق أن هناك تجارب خاصة فى حياة الناس يمكن أن يكونوا بعدها مختلفين عما كانوا قبلها، والتاريخ حافل بنماذج كثيرة لهذه اللحظات الفاصلة والفارقة فى حياة البشر، سواء كانوا على القمة فى بلادهم، أو من السفح والقاع."
فى ليلة 6-7 أكتوبر، كان «أنور السادات» فى لحظة فاصلة وفارقة من حياته شكلت- على وجه القطع- مفترق طرق.
قبلها كان واحداً من زعماء العالم العربى مثل غيره كثيرين وبعدها أًصبح نجماً يلمع فى آفق عالٍ وشاهق.
وقبلها فإن رجلاً مثل هنرى كيسنجر -وزير الخارجية الأسطورى للولايات المتحدة - كان يتهرب منه ويصفه بأنه «بهلوان سياسي»- وبعدها فإن لم يعد فى مقدور أحد- بمن فيهم كيسنجر- إلا أن يعترف له بأنه «داهية سياسي».
قبلها كان حاكماً بشرعية مستعارة من سلفه «جمال عبدالناصر»- وبعدها فإنه أصبح يمتلك شرعية مستقلة يبدأ بها عصراً جديداً من حكمه.
وقبلها لم يكن فى تاريخ العرب الحديث انتصار عسكرى واضح، وبعدها فإنه سجل فى تاريخ العرب نصراً عسكرياً على مستوى لم يكن ينتظره أحد.
وقبلها كان رجلاً تكررت وعوده واعتبرت كلها جوفاء وفارغة، وبعدها فإنه استطاع أن يحقق ما وعد به، وزاد عليه.
وقبلها كان يتصرف وفى إحساسه أن جمال عبدالناصر كان رجلاً أكبر منه، والآن فقد داخله الإحساس بأنه أصبح أكبر من جمال عبدالناصر. فهذا الذى تحقق على يديه اليوم لم يحدث ولا لجمال عبدالناصر.
وكان ذلك كله ماثلاً فى ذهنه تلك الليلة، وقد عبر عنه بالنشوة، وربما استطاع تحليل بعضه، وأحس بأثر البعض الآخر دون تحليل، لكنه فى نهاية يوم طويل ومرهق، يدخل إلى فراشه ليلاً وقد أصبح على قمة العالم، وقد كان مغربه ومشرقه مأخوذاً بما حدث.
كان هو الآخر مأخوذاً بما حدث، وكان ما رآه وعاشه طول اليوم بالفعل أشبه ما يكون بانفجار قنبلة ذرية، وقد كان قراره هو الذى فجرها، وهذه حقيقة لا يملك أحد أن يجادل فيها.
كل ما شغل السادات هو ما يراه أمام عينيه.. فلقد تم العبور العظيم- وهو الآخر عبر من مكان إلى مكان، ومن ضفة إلى ضفة، ومن حال إلى حال.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة