د.إيمان يسرى

الصمت والصوت

الأحد، 08 أكتوبر 2023 12:01 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

الصمت فى مفهومه البسيط ومعناه المطلق هو عدم وجود صوت، أى أن الصمت هو عكس الصوت. ولذلك فإن الصمت والصوت مقترنان دائما لأنهما عكس بعضهما البعض؛ ولكن فى واقع الأمر، هذا المفهوم البسيط غير دقيق عند تطبيقه فى مواقف حياتية حقيقية. فكم من إنسان وكائن حى يبدو صامتا وهو حقا يصرخ من شدة الحزن أو الألم أو ربما السعادة والفرح!

ومن ثم تصور معى صديقى القارئ إذا كنت تسير فى الشارع؛ وفجأة تلقيت خبر وفاة شخص عزيز عليك، فقد يبدو عليك الصمت حينها ولكنك فى داخلك ترغب فى الصراخ بأعلى صوتك. وعلى العكس؛ إذا تلقيت خبر ترقيك لمنصب مرموق، فقد يبدو عليك الصمت حينها لكنك فى أعماقك ترغب فى أن تضحك وترقص وتغنى بأعلى صوتك من شدة الفرح. وبالطبع ليس كلا منا قادر على كتم مشاعره أو بالأحرى؛ السيطرة على مشاعره حتى يخرجها فى الوقت المناسب مع الأشخاص المناسبين. ولكن فى مضمون الأمر؛ ليس كل صمت يعنى عدم وجود صوت؛ فكثير منا يبدو صامتا فى موقف معين ولكن فى داخله بركان ثائر لا يقدر أحد على إخماده.

منذ قرون، نشأ خلاف بين الفلاسفة وعلماء النفس عن مفهوم الصمت وكيفية يتم تفسير معنى الصمت، ومؤخرا أشارت دراسة أمريكية أنه يوجد صوت للصمت! وقدم هذه الدراسة طالب دراسات عليا فى الفلسفة وعلم النفس بجامعة جونز هوبكينز (Johns Hopkins University). تقوم الدراسة على سبع تجارب أوهام سمعية مختلفة على ألف شخص. وتشير الدراسة أن الدماغ البشرى قادر على ترجمة الصمت كما يترجم الصوت. بمعنى أنه عندما يستمع الإنسان إلى مقطع صوتى متواصل لـ 10 ثوانى (على سبيل المثال)، ثم يقوم بسماع نفس المقطع ولكن يتخلله فترة صمت (3 ثوانى على سبيل المثال)، بحيث يكون طول المقطع مساو لـ 10 ثوانى أيضا. فإن دماغ الإنسان تدرك أن المقطع الصوتى الأول المتواصل أطول فى المدة الزمنة من المقطع الثانى الذى يتخلله فترة صمت، بالرغم من أن المقطعيين لهما نفس المدة الزمنية فى الإجمال (10 ثواني). ومن هنا يستند الباحث إلى أن الدماغ البشرى يسمع الصمت ويفسره عن طريق وقت إضافى محذوف.

ولكن فى حقيقة الأمر لا تفسر هذه الدراسة غير إدراك الدماغ البشرية للوقت وليس أكثر، حيث من خلال خبرتى ودراستى فى مجال الصوتيات واللسانيات، أن فترات الصمت تصبح أطول بكثير عن فترات الصوت. فإذا قمت بتشغيل موسيقاك المفضلة (مثلا) لمدة دقيقة وأتبعتها بدقيقة أخرى من الصمت، فمن المؤكد أنك ستشعر أن الدقيقة الأولى (التى بها الموسيقى) مرت أسرع بكثير من الدقيقة الثانية (التى كانت صامتة) بالرغم من أنها نفس مدة الدقيقة (60 ثانية). ومن ناحية أخرى عند تطبيق نتائج هذه الدراسة على الأصوات اللغوية فنجد أن النتائج ربما تكون عكسية. فعلى سبيل المثال؛ ظاهرة التشديد فى اللغة العربية فى كلمة "سر" (فعل الأمر من يسير أو يمشي) و"سرّ" (مفرد أسرار). عند قياس المدة الزمنية لصوت "الراء" فى الكلمتين سنجدها بالطبع مختلفة اختلاف ضئيل، ولكن العقل البشرى ربما يدرك هذا الاختلاف فى المعنى بين الكلمتين من السياق اللغوى وليس من المدة الزمنية لصوت الراء.

وهكذا فإن إدراك العقل البشرى لمعنى الصمت يأتى من تفاعل الدماغ أولا مع الصوت، وعند توقف هذا التفاعل، تفسره الدماغ على أنه صمت. فعلى سبيل المثال، جميعنا يحضر حفلات صاخبة أو أفراح بها موسيقى عالية أو تجمعات عائلية بها الكثير من الأصوات، وفجأة عند الجلوس على مائدة الطعام وبدء نزول الطعام يعتلى المكان لحظات من الصمت المفاجئ، والجميع يشعر بحالة من الهدوء، وربما تجد من يجلس بجانبك على الطولة يقول بصوت خافت "ياااه، ايه الهدوء ده". وبالرغم من سماع أصوات موسيقى بسيطة فى الخلفية أو أصوات أدوات مائدة الطعام البسيطة، كما أن هذا الهدوء المفاجئ لا يعد صمت كامل ولكن تفسره الدماغ البشرية على أنه نوع من الصمت لأنه حدث مباشرة بعد أصوات صاخبة.

حالة الصمت الحقيقى هى الحالة التى يصمت فيها الشخص ويتواجد الشخص فى مكان صامت قدر المستطاع، حيث عندما يصمت الشخص، فإنه يبدأ بسماع صوته الداخلى بشكل أعمق، بحيث يصبح فى حالة من التطابق والتماثل بين نفسه وروحه وعقله وقلبه. فى الطقوس الصوفية كان جلال الدين الرومى يصف حالة العشق التى يعيشها فى التعبد ويقول "الصمت عطر العاشقين". حيث أن حالة العشق بين طرفين لا تكتمل ولا تصل إلى أعلى قمتها إلا فى حالة فهمهم وشعورهم ببعضهم البعض وهم فى حالة من الصمت التام.

وأيضا يستخدم الصمت كوسيلة للعلاج لكثير من الأمراض النفسية والعصبية وأيضا الجسدية وذلك عن طريق ممارسة اليوجا، والجلوس فى صمت شديد فى أماكن طبيعية لفترات طويلة فى وضعيات معينة حتى يصل الشخص لاتحاده مع ذاته والتى منها يصل لحالة من الهدوء والسلام النفسى. كما يستخدم الصمت لتحسين مهارات الشخص وضبط نفسه وسلوكياته وزيادة قدرته على التحكم فى مشاعره، مثل استخدام الصمت فى تدريبات الغناء لتحسين جودة الصوت وتحسين القدرة على التحكم فى الشعور وزيادة الإحساس، ومن أشهر مغنيين العالم الذين يستخدمون الصمت كتدريب للغناء المطرب الإيطالى العالمى أندريا بوتشيلى (Andrea Bocelli) ويمكنك مشاهدة ذلك عزيزى القارى من خلال الفيلم المأخوذ عن سيرته الذاتية فيلم (The Music of Silence 2017).

ويوجد بعض التجارب العالمية للعلاج باستخدام الصمت عن طريق الجلوس فى حجرة عازلة للصوت تماما وغير عاكسة للصوت أو صدى الصوت، وهى حجرة تكون مبنية على أساس قانون التخفيف الصوتى باستخدام قانون التربيع العكسى الفزيائي؛ تسمى هذه الغرفة "غرفة كاتمة للصدى" (Anechoic Chamber)، ويمكنك عزيزى القارئ البحث عنها على "اليوتيوب YouTube" ومشاهدة ما يحدث لمن يدخلها. حيث عند الجلوس فى هذه الحجرة فإنك ستشعر بمرور الوقت بصوت أنفاسك وضربات قلبك وسريان الدم فى عروقك، كما أنك ستشعر بأعضاء النطق والكلام لديك عندما تتحدث، ومنها سيبدأ صوتك فى الانخفاض والتحدث بهدوء، وستخرج من هذه الحجرة وأنت فى حالة من الهدوء والسلام النفسى، ولكن ينصح المتخصصون بالجلوس فى هذه الحجرة لمدة لا تزيد عن 45 دقيقة، حيث قد يصاب بعض الأشخاص ببعض الاضطرابات أو الهلاوس نتيجة عدم الاعتياد على مثل هذا الصمت حياتهم اليومية.

عندما يجلس الإنسان فى حالة صمت فإنه يسمح لنفسه بسماع صوته الداخلى، فكثير من البشر يبدو عليه أنه فى حالة صمت ولكن فى حقيقة الأمر هو يستمع لصوته الداخلى الذى لا ينتهى ولا يمكن للشخص السيطرة عليه ولا إيقافه، حيث ينبع هذا الصوت الداخلى من أفكار الشخص وتجاربه ومشاعره سواء كانت سلبية أو إيجابية والتى بالطبع تنعكس على حالته الجسدية والصحية والسلوكية، فإذا كان الصوت الداخلى للشخص الصامت يتحدث إليه بالقلق والخوف، فإن ذلك سيحدث أثار فيسيولوجية على جسد الشخص الصامت مثل ارتفاع أو انخفاض ضغط الدم أو ارتفاع معدل ضربات القلب. وإذا كان الشخص الصامت غير قادر على إيقاف الصوت الداخلى له حتى فى حالة النوم، فسينعكس ذلك فيسيولوجيا على جسد الشخص ويشعر بحالة من الصداع الشديد والشعور الدائم بالتعب والخمول والإرهاق، وهكذا.

الصمت ليس فى معناه أن تجلس صامتا ولا تصدر أى صوت، أو أن تجلس فى حجرة صامتة لا تسمح للأصوات بالمرور إليك. ولكن الصمت الحقيقى هو التحكم فى الصوت الداخلى الصادر منك، والإنصات بتمعن إلى ما تخبرك به نفسك وقلبك وروحك وعقلك وجسدك حيال أمر ما. لذلك تخيل معى عزيزى القارئ إذا كانت الحياة بلا صوت، فكيف سيكون شكلها؟ فهل ستبدو حياة من الأصل؟ تخيل إذا كنت غير قادر على سماع أصوات الطبيعة من حولك مثل صوت المطر أو الرعد أو غدير الماء أو تغريد الطيور أو أصوات الحيوانات المختلفة، أو حفيف الأشجار، أو صوت الموسيقى المفضلة لديك، أو صوت الشعائر الإسلامية أو التراتيل المسيحية بصوت القارئ المفضل لك. تخيل إذا كنت غير قادر على سماع صوتك الداخلى الكامن فيك والذى ربما ينقذك من الخطر عند تعرضك لموقف ما، فكيف كانت ستبدو هذه الحياة بالنسبة لك؟










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة