يبدو انتصار أكتوبر بمثابة اللحظة الحاسمة، التي تحققت فيها العديد من الإنجازات، وأبرزها استعادة الأرض، والكرامة، في زمن قياسي، لا يتجاوز الـ6 سنوات، وخلال 6 ساعات فقط، بينما تحطمت الأساطير التي رسمها البعض في خيالهم، وهو ما يعكس قدرات استثنائية تحظى بها الإرادة المصرية، أثبتت فعليا قدرتها على تحقيق المعجزات، عبر جيشها الذي تمكن من تحقيق العبور، ليس بمعناه المادي فقط، والذي يتجسد في عبور القناة، وإنما أيضا بصورته المعنوية، عبر العبور بملايين المصريين من ظلمة اليأس إلى نور الأمل، وهو الأمر الذي تحقق مرارا وتكرارا، خاصة بعد مرحلة الفوضى التي كادت أن تطيح بالبلاد والعباد، في بداية العقد الماضي، جراء ما يسمى بـ"الربيع العربي"، على خلفية ثورة المصريين في 30 يونيو، واحتشادهم بالملايين في الميادين، من أجل النجاة ببلادهم والخلاص من براثن الانقسام والإرهاب.
وبالنظر إلى ملحمتي العبور في أكتوبر والخلاص في يونيو، نجد أن ثمة العديد من المقاربات، لا تقتصر على نجاعة الوحدة بين الشعب المصري وقواته المسلحة، وإنما تمتد إلى الرؤية المرتبطة بالأوضاع الدولية، التي تزامنت معهما، في ظل مرور العالم خلالهما بمرحلة "مخاض"، كانت تمهد لبداية حقبة جديدة، تمكنت القيادة المصرية في الحالتين من استثمارها بصورة كبيرة، بما يتواكب مع الظروف العالمية المحيطة، وهو ما يعكس النظرة البعيدة للأمور، والقدرة غير المتناهية على امتلاك زمامها في اللحظة الحاسمة، إلى الحد الذي يسمح في استقطاب الدعم الدولي، لتحقيق اختراقات كبيرة، تبدو ممتدة في مكاسبها، لتتجاوز الداخل المصري، نحو أفاق عربية وإقليمية أوسع.
ففي أكتوبر، ربما ساهمت ملحمة العبور العظيم في توحيد الصف العربي، واستعادة ما تحظى به دول المنطقة من زخم، في ظل حالة من الاستقطاب الدولي، كانت على أشدها في ضوء الحرب الباردة، والتي ساهمت بصورة كبيرة في تقييد التدخل الغربي لصالح إسرائيل، عبر العديد من المسارات، ربما أبرزها باستخدام سلاح النفط، الذي يمثل عصب الاقتصاد في أوروبا والولايات المتحدة، بينما حظت في الوقت نفسه بدعم الاتحاد السوفيتي، على اعتبار أن كسر الحليف الأهم لواشنطن في منطقة الشرق الأوسط، في تلك الحقبة يمثل انتصارا مرحليا مهما في إطار الصراع على قيادة العالم، وهو ما يمثل نقطة تحول تغير خلالها ميزان القوى العربية في المعادلة الدولية في صورتها الجمعية.
اللحظة المصرية الخالصة ذات النطاق الإقليمي الأوسع، ربما تكررت مع الانطلاق من "معركة" الحرب، إلى التفاوض، حيث كان الحق الفلسطيني في مقدمة الأولويات التي تبنتها الدولة المصرية، بينما لم تتفاعل دائرتها العربية مع "معركتها" الدبلوماسية، على غرار ما حدث في الحرب، مما أضاع قدرا كبيرا من الزخم الذي كان من المفترض أن تحظى به القضية، جراء انكسار غرور الاحتلال، من جانب، والمساعي الأمريكية للفوز بدعم العرب مع احتداد الصراع مع الاتحاد السوفيتي، وما يسفر عن ذلك من ضغوط على إسرائيل، من شأنها تحقيق المزيد من المكاسب على الساحة الفلسطينية، من جانب آخر.
بينما تكرر الأمر بعد ذلك بعقود طويلة، عندما نجحت الدولة المصرية، ومؤسستها العسكرية، في وأد الفوضى، في لحظة مصرية جديدة، لم تتوقف تداعياتها على الحدود المكانية، وإنما فتحت أفاق الحماية لمنطقتها، بعدما انتفضت شعوب المنطقة، لحماية أوطانها مجددا بعدما انزلقت لسنوات في مستنقع الحروب، مستلهمة ما حدث على أرض الكنانة في 30 يونيو، بينما كانت الحالة الدولية تشهد مخاضا جديدا ساهم في إضفاء المزيد من الزخم على اللحظة الحاسمة، التي أضفت الحياة مجددا على الإقليم بأسره، في ظل صعود قوى جديدة، يمكنها تحقيق قدر من التوازن في المواقف الدولية، سواء تجاه ما شهدته مصر، أو بعد ذلك دولا أخرى، نجت فعليا من براثن الإرهاب وكابوس التقسيم، وحالة الذعر التي انتابت شعوبها جراء الحروب التي طالت لسنوات.
اللحظات المصرية سالفة الذكر، تمثل انعكاسا، ليس فقط لأهمية الانتصارات التي حققت بها مصر عبورا للمستقبل، وإنما أيضا في نتائجها الجمعية، في ظل إيجابيات حظت بها منطقتها الجغرافية على المستويين الدولي والإقليمي، بينما يبقى الرهان دائما على استثمار تلك اللحظات الفارقة على المستوى الإقليمي، وهو ما يبدو مؤخرا في العديد من المشاهد، سواء عربيا أو أفريقيا، في ظل احتواء الصراعات الإقليمية من جانب، وتحييد الخلافات البينية من جانب آخر، والحديث بصوت عال أمام العالم عن حقوق الدول المستضعفة، التي عانت الأمرين جراء سياسات الاستنزاف والتهميش التي مارسها العالم بصددها لعقود طويلة.
وهنا يمكننا القول بأن انتصار أكتوبر هو أحد أهم اللحظات التاريخية، التي حققت فيها مصر انتصارا إقليميا، بينما تبقى ثورة يونيو امتدادا لتلك الانتصارات ذات الأفاق الأوسع، التي تتجاوز في جوهرها الداخل المصري، وهو ما يعكس أهمية دراسة تلك النماذج لاستثمار تلك اللحظات الاستثنائية لتحقيق أكبر قدر من المكاسب الجماعية، سواء فيما يتعلق بالقضايا الرئيسية أو حتى ما يتعلق بالمصالح الفردية لكل دولة على حدة.