في فجر هذا اليوم .. العاشر من رمضان السادس من أكتوبر من عام 1973
كان المرحوم الشيخ محمد أحمد شبيب يقرأ ما تيسر من الذكر الحكيم لآيات الله من القرآن الكريم في مسجد سيدنا الحسين بالقاهرة، تمهيدا لأذان الفجر وإيذانا بصيام يوم جديد من شهر رمضان المبارك، وهو اليوم الأخير في أيام "الرحمة".. صوت الشيخ شبيب يصدح بتلاوة آيات تفاعل معها الناس داخل المسجد ومن حول أجهزة الراديو داخل البيوت وفي المقاهي في كل ربوع مصر.. آيات نفذت إلى الأفئدة فاقشعرت بها الأبدان.. والشيخ يعلو بالمقام وسط صيحات المصلين داخل المسجد والتي كان لها صدى خارجه "الله..الله".. التلاوة استغرقت 57 دقيقة، وراح الشيخ يقرأ آيات مباركات تحث على القتال والنصر والشهادة من سورة "آل عمران".
في تلك الليلة -كما صرح الشيخ قبل وفاته- حمل مصحفه ليستعيد ما يحفظ من كتاب الله تبارك وتعالى من آيات سورة آل عمران، وكأنها كانت مراجعة لليلة الامتحان، أخذ يقرأ ويراجع ورده اليومي وكأنه يحفظ القرآن لأول مرة.. فبعد قليل سوف يقرأ قرآن الفجر عبر أثير إذاعة القرآن الكريم أكبر وأول إذاعة للقرآن الكريم في العالم وباقي الإذاعات العامة المصرية.
توجه الشيخ شبيب إلى المسجد قبل الفجر بوقتٍ كافٍ، واستحضرالآيات التي سوف يقرأها في قرآن الفجر، وهي آيات الشهادة في سبيل الله من سورة آل عمران، «وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّه تُحْشَرُونَ...." و"إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" وحتى "وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْواتًۢا ۚ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»، وراح يكرر في الآيات ويعلو بقراءتها من الخشوع إلى التضرع.. وحالة النشوة الإيمانية واليقين تملأ أرجاء المسجد وخارجه .
هل كان الشيخ شبيب يوجه رسالة إلى الجنود ويحثهم على القتال والنصر؟
وهل تخيل أن تلاوته لتلك الآيات هي بشارة للنصر وبارقة الأمل في استعادة الأمجاد؟
هل بلغته رؤية الإمام الراحل عبد الحليم محمود، شيخ الأزهر، للنبي (صلى الله عليه وسلم) فذات يوم استيقظ الشيخ عبد الحليم محمود من النوم مستبشرًا، بعدما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام، يصطحبه معه ومعه علماء المسلمين وضباط وجنود القوات المسلحة وعبر بهم قناة السويس.
وعقب استيقاظ الشيخ عبد الحليم محمود من نومه ذهب على الفور إلى الرئيس الراحل أنور السادات، وأخبره بما رآه في المنام، ليستبشر الرئيس السادات خيرًا باقتراب النصر والعبور.
ويقول الدكتور محمود جامع في كتابه: "كيف عرفتُ السادات؟": "لا ننسى أنه بشرنا بالنصر في أكتوبر 1973 عندما رأى حبيبه رسول الله (عليه الصلاة والسلام) في المنام، وهو يرفع راية "الله أكبر" للجنود ولقوات أكتوبر".
كما روى قصة رؤيا شيخ الأزهر للنبي (صلى الله عليه وسلم)، قبيل حرب أكتوبر، مفتي مصر السابق، الدكتور علي جمعة، والدكتور أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء ورئيس جامعة الأزهر الأسبق، وغيرهما من مشايخ مصر.
الشيخ شبيب نفسه صرح في تصريحات صحفية سابقة وفي إحدى مناسبات نصر أكتوبر، بأنه كان يشعر بأن هناك حدثا عظيما تهتز له الدنيا سوف يقع بين وقت وآخر، وبالفعل حدث العبور العظيم، وقال: "أثناء تلاوتي لقرآن الفجر في يوم العبور كنت أشعر بأهمية هذا الفجر بالنسبة لي كقارئ، وأديت أداءً من القلب وتجاوب معي الموجودون بمسجد الإمام الحسين، وتلوت أروع وأقوى التلاوات في حياتي بإحساس وشعور غريب، وبعد انتهاء شعائر صلاة الفجر ذهبت إلى شقتي بالقاهرة لأستريح وأنام، فاستيقظت على الخبر السعيد وهو عبور قواتنا المسلحة قناة السويس، فدعوت الله أن يتم علينا نوره ونصره حتى يعود الحق إلى أهله.. وكنت أنا الذي سأقرأ السهرة بسرادق عابدين في نفس يوم 6 أكتوبر 10 رمضان، ففوجئت بالسرادق مليئا عن آخره بالناس، ولم يكن هناك موضع لقدم، وكأن الناس يريدون أن يهرعوا إلى هذا المكان الذي يُتلي فيه القرآن والذي تحفه الملائكة لشعورهم بأن السماء قريبة جداً من هذا المكان حتى يقبل الله منهم الدعاء."
كان قرآن فجر يوم النصر مشهودا ومبشرا بصوت "قارئ النصر"، كما أطلقت عليه وسائل الإعلام فيما بعد.
وُلد شيخنا الجليل في 25 أغسطس عام 1934، وهو العام الذي انطلقت فيه الإذاعة المصرية بصوت الشيخ محمد رفعت يوم 31 مايو. وهو من مواليد قرية (دنديط) إحدى قرى مركز ميت غمر بمحافظ الدقهلية.
وتؤرخ مدرسة التلاوة المصرية بأن الشيخ محمد أحمد شبيب هو أول قارئ مصري للقرآن الكريم في المسجد الأقصى بالقدس، وهي مصادفة كان الشيخ شبيب يعتز ويفتخر ويزهو بها، فقد قررت وزارة الأوقاف فى عام 1994 إيفاد الشيخ شبيب إلى إيطاليا لإحياء ليالى شهر رمضان بالمركز الإسلامى بروما، ولكنه اعتذر، مفضلاً البقاء بمصر بين أهله وعشاق صوته وتلاوته.
وقبل حلول شهر رمضان بيوم واحد أخبره وكيل وزارة الأوقاف بأن هناك دعوة باسمه من قِبَل الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات لإحياء ليالى شهر رمضان بالمسجد الأقصى بالقدس، فلم يتردد فى قبول هذه الدعوة، ليشارك الفلسطينيين فرحتهم واحتفاءهم بأول رمضان بعد إقامة دولتهم.
وعند وصوله وجد حفاوة واهتماما وتكريما بأن وجه إليه الرئيس الفلسطينى الدعوة للإفطار معه بمقر الرئاسة.
وكانت سعادته لا توصف عندما تلا قرآن الجمعة اليتيمة بالمسجد الأقصى بين ما يقرب من نصف مليون فلسطيني، يتقدمهم الرئيس أبو عمار، وقرأ نفس التلاوة التى قرأها فى يوم العبور عام 1973 من سورة آل عمران، وظل يكرر قول الله تعالى "إن ينصركم الله فلا غالب لكم"، أكثر من عشرين مرة بناء على رغبتهم، وبعد انتهاء الرحلة كرّمه الرئيس عرفات بمنحه شهادة تقدير ونيشان السلطة الفلسطينية، تقديرا لدوره كأول قارئ يتلو القرآن بالمسجد الأقصى بعد العودة.
وفي عام 1951م التحق الشيخ محمد بمعهد الزقازيق، فاشتهر هناك بأنه يتلو القرآن بصوت عذب شجي وبحسن التلاوة، فتمسك به مشايخ المعهد، وطلبوا منه أن يفتح لهم اليوم الدراسي بالقرآن، بالإضافة إلى المشاركة في جميع الاحتفالات التي تقام بالشرقية عن طريق الأزهر الشريف، ليصبح الطالب محمد أحمد شبيب محل ثقة كل الناس، وعُرف بمنطقة الشرقية الأزهرية، وامتدت شهرته إلى البلاد المجاورة التابعة لمحافظة القليوبية، بالإضافة إلى منطقة ميت غمر.
وفي عام 1961م أصيب الشيخ شبيب بالتهاب في الحنجرة كاد يمنعه عن القراءة، ولكن عناية الله أنقذته على يد الدكتور علي المفتي الذي أزال حبة كانت هي السبب في الالتهاب بالحنجرة.
توفى الشيخ شبيب يوم 3 أبريل 2012 بقريته عن عمر 79 عاما، تاركا إرثا رائعا من التلاوات البديعة.. رحمه الله