تُؤمن أغلب الدائرة العربية بالدبلوماسية، وينحاز آخرون للخطابة. «غزّة» فى حاجة ماسّة لجهود الجميع؛ لكن المُهم أن يتلاقى الفريقان على رؤيةٍ جامعة. عندما دعت مصر إلى «قمّة القاهرة للسلام»؛ كانت تشقّ مسارًا دوليًّا ناضجًا نحو السياسة؛ نجحت فى أن تستخلص منه عنوانًا عريضًا يدعم حلّ الدولتين، ويضع الاعتبارات الإنسانية فوق منطق الصراعات الصفرية والحسم بالقوّة. ما شهدته الرياض فى قمَّتها العربية الإسلامية، أمس السبت؛ إنما يكتسب مشروعيّته من التحركُّات المصرية السابقة، ويُعالج قصورًا شاب رؤية الإقليم منذ اندلاع النزاع قبل خمسة أسابيع. لا سيّما مع اتجاه فريقٍ إلى الاستثمار فى الدم، وبقاء آخرين فى حيِّز المُقاربات شديدة النعومة؛ بينما سار عددٌ ضئيل من الدول باتجاه برمجة حلولٍ عملية، لا تتعالى على السياسة ولا تُقامر بالأرواح. القضية اليوم تخطو على حدِّ السكين؛ فإمَّا تحتمل الألم وإمَّا تسقط يمينًا أو يسارًا؛ وليس فى صالحها ولا صالح أحد أن يستمر النزيف، أو أن تصير مجالاً لعضّ الأصابع بين المُعتدلين والحنجوريين.
اختفى أمين حزب الله شهرًا كاملاً؛ ثم ظهر فى كلمةٍ خرساء لا تقول شيئًا، والغريب أنه قرَّر أن يكون ظهوره الثانى بالتزامن مع قمَّة الرياض؛ وقتما كان مُعلنًا أنها «عربية خالصة». لا يبتعد ذلك من هجوم قيادات بالحزب على الحدث، مثلما قال نبيل قاووق إن الفلسطينيين لا يُراهنون على الدول العربية؛ إنما على سلاح المُقاومة، وتبعته حركة الجهاد عبر فرعها فى بيروت بأنهم لا ينتظرون شيئًا من العرب.
ربما سعت الرياض إلى دمج القمَّتين العربية والإسلامية لحصار هذا النشاز؛ إذ لم يعد مُمكنًا أن يتمادى الهجوم بينما تحضر إيران وتركيا بين المُجتمعين، وربما يُعدِّل حسن نصر الله كلمته المُعدَّة سلفًا بما يتماشى مع القماشة الجديدة، وقد فعلها فى خطابه السابق التزامًا بإشارات طهران بعد رسائل التحذير الأمريكية.. جاءت كلمة سيد الضاحية لغوًا فارغًا كعادته، وهكذا يبدو أن الحدث أفلت من فخّ المُزايدة الخارجية؛ لكنه مُهدَّد بالمُزايدات الداخلية، وما يزال مطلوبًا أن تُدار تناقضات المحاور على الطاولة بفاعلية أكبر؛ لأجل الوصول إلى تفاهماتٍ حقيقية جادة وبعيدة المدى، بما يتجاوز البيان الختامى والكلمات البروتوكولية، إلى تصوُّرٍ جامعٍ تتأسَّس عليه سياسات عربية إسلامية أكثر انضباطًا وكفاءة.
الإدارة المصرية عندما سارعت لتنظيم قمَّة القاهرة؛ كانت الدعوة بعد أسبوعٍ تقريبًا من اندلاع المواجهة فى غزّة، ولعلَّ مجلس الأمن القومى أرادها حدثًا دوليًّا، انطلاقًا من افتراض الوضوح فى المواقف العربية، ومن الحاجة إلى بناء تيَّار عالمى أوسع وأعمق أثرًا.
الصبغة العربية اليوم لن تُقدّم أكثر ممّا قدمته القاهرة قبل ثلاثة أسابيع؛ لكنها قد تكون مُهمّة لناحية ترميم الشقوق الظاهرة فى الجدار الإقليمى، وجَمع المُكوِّنين الثقافى والعقائدى على أجندةٍ مُوحّدة تضع فلسطين فوق المحاور، وتُصفِّى القضية من عوالق المُناكفات بين الأطراف ذوى الطموحات الشخصية المُنتفخة. من هنا تكون قيمة الحدث فى ترتيب الأوراق على شرط الإجماع، حتى لا تكون الدائرةُ وثيقة الصلة بالفصائل والسلطة مُحفّزًا للنزاع؛ بدلاً من لعب أدوارٍ تلطيفية، أو السعى المُخلص والأمين لتعزيز مناعة البيئة الفلسطينية، والنأى عن صَرف مكاسبها السياسية والعسكرية؛ لصالح أجنداتٍ عرقية أو مذهبية مُضادّة لجوهر الصراع العربى الإسرائيلى.
ربما يُسجِّل البعضُ مُلاحظات على الحدث؛ لناحية أنه ينطوى على شىءٍ من الارتباك فى التأسيس والتنظيم. كان العنوان «قمّة طارئة»؛ لكنها جاءت بعد ستّةٍ وثلاثين يومًا من العدوان، وكانت تتزامن مع قمّة «عربية أفريقية» أُلغيت فى وقتٍ مُتأخّر، وتتبعها أخرى «إسلامية» شُطِبت على صيغة الدمج مع النسخة العربية. نظريًّا تبدو المُشتركات كبيرة بين الجامعة العربية ومُنظّمة التضامن الإسلامى، وعمليًّا هناك فُروقٌ وتناقضات ظاهرة: الحصَّة الأكبر من تجَّار الشعارات ينطلقون من العنوان الدينى، وبعضهم يرفضون «حلّ الدولتين» ولا يعترفون بإسرائيل، ولدى فريقٌ منهم مصالح مُباشرة واتصال وثيقٌ بالميليشيات النشطة فى المنطقة. قد تتسبَّب تلك التوازنات فى تفريغ الموقف الجامع من قوَّته؛ لا سيّما أنه من الصعب أن يُسلِّم طرفٌ من الاثنين بهيمنة أجندة الآخر. الخُلاصة هكذا قد لا تُعبّر عن الآمال المعقودة على اللقاء، بين خطابيَّات لا يُمكن ترجمتها إلى إجراءاتٍ عملية، ومواقف لا يسهُل تأطيرها فى استخلاصات سياسية وقانونية واسعة القبول.. كأنَّ المُراد استهلاك ورقة التنسيق الإقليمى؛ لصالح إبقاء الأمور على حالها. هذا التصوُّر يصبُّ فى صالح الورقة المصرية، ويُعزِّز رؤية القاهرة وعمّان، وما يجرى من تنسيقٍ مع الدوحة لتفعيل صيغة الهُدنة الإنسانية، وتنشيط صفقة لتبادل الأسرى والمحتجزين.
بدا منذ اللحظة الأولى أن المُضمَر من المواقف أكبر من المُعلن. بعض القادة العرب أحاطوا رؤاهم بقدرٍ من الغموض المقصود، وغاب آخرون عن قمّة القاهرة؛ لأسباب قد تبدأ من رفض المحور الشيعى وأذرعه، وتصل إلى المنافسة على قيادة الإقليم؛ لكن نجحت مصر فى تمرير رسائلها كاملةً، وتأمين قاعدة لإعادة بناء خطابات العواصم الكبرى. تجلَّى ذلك فى تعديل مُقاربات واشنطن وبعض دول أوروبا، واتساع موجة رفض التهجير مع إعادة حلِّ الدولتين للواجهة. أمَّا التباطؤ العربى فيبدو واضحًا فى خريطة المُساعدات؛ إذ تضاءلت حصَّة الإقليم منها إلى درجةٍ فاضحة، وهى من الإشارات السياسية شديدة التعبير وقليلة التكلفة. كأنَّ الأزمة لدى البعض فى تصدُّر القاهرة للمسار العربى، أو رغبتهم فى احتكار العنوان الفلسطينى، وربما يرى فريقٌ أنها ردٌّ على أجندة حماس و«طوفان الأقصى»، وقد كان من أولويّاتها كبحُ مسار التطبيع، وتعطيل رزمة الاتفاقات الاقتصادية بين تل أبيب وعدد من دول المنطقة.
ما سبقَ القمَّةَ يُشير لمساراتٍ أخرى أكثر فاعليّة. استقبل الرئيس السيسى الأمير تميم، وسبقه وفدٌ رفيع من قيادات حماس، ثم تردَّدت أنباء عن زيارة رئيس الموساد لإحدى عواصم المنطقة، وقيل إن صفقةً فى طَور النضج، قد تنتهى بهُدنةٍ إنسانية لقاء الإفراج عن عشرةٍ إلى خمسة عشر أسيرًا. قد لا يُحبّ «محور المُمانعة» أن تسير المواجهة المُلتهبة إلى التهدئة بتلك الصورة؛ لهذا سعوا لانتقاد القمَّة العربية كأنها منصَّة التصويب على تحرُّكات مصر والأردن وقطر؛ وبعدما توسَّعت بإضافة المُكوّن الإسلامى، وهبط إبراهيم رئيسى فى الرياض مُطوِّقًا عنقَه بالكوفيّة الفلسطينية؛ فقد تهدأ رصاصات «حزب الله» الصوتية وتتصاعد قذائف السياسيين الشعبويّين؛ لكنّ مسار التهدئة الذى بدأ من قمَّة القاهرة يتكامل مع مُلتقى الرياض ولا يتقاطع؛ أى أنه ماضٍ فى مفاعيله الدبلوماسية بمعزلٍ عن شقاقات العُروبة والإسلام، وعن توازنات المحاور، وصراع الأدوار بين الراغبين فى انكسار حماس، والمُتمسّكين بتمكينها من رقبة فلسطين. بين الخيارين مسارٌ ثالث أكثر تعقُّلاً؛ أهمّ ما فيه التهدئة العاجلة، وعصمة دماء الفلسطينيين بإنهاء المقتلة، من دون اعتباراتٍ نفعية تخصّ بلدًا أو ميليشيا.
جاءت مشاهد شارع صلاح الدين قبل ساعاتٍ من القمَّة، بنزوح عشرات آلاف الغزِّيين داخل القطاع؛ لتُضىء على عُمق الأزمة القائمة. ما تزال إسرائيل تُواصل مُخطّطَها للتهجير، ويُبدى الغربُ حماسًا للتسوية السياسية؛ لكنه لا يتحرّك عمليًّا. الجبهة الداعمة للاحتلال مُتشدِّدةٌ فى خيار الحرب، وتل أبيب تتمسَّك بسُلطةٍ أمنية دائمة على غزّة، وربما تتطلَّع إلى إخضاع «إعادة الإعمار» مُستقبلاً لتلك المُقتضيات. أمَّا «حماس» فقد حُشِرت فى ركنٍ مُظلم، ولا تملك مخرجًا من محنتها، وتيّارها لم يُقدِّم لها ما كانت تأمل من الدعم.. ينعقدُ الأمل على خطاب التعقُّل العربى؛ والعواصم صافية الانحياز على التحديد. كان خطاب الرئيس السيسى فى الرياض بارزًا من تلك الزاوية، فبينما انتهجت أغلب الكلمات مسارًا عاطفيًّا بين السخونة والتباكى؛ قدَّمت مصر تسلسُلاً ناضجًا للحلّ، يبدأ بمُعالجة جذور الصراع، وقدّمت أولوية التهدئة والإغاثة وأمن المدنيِّين، وأدانت سلبية المجتمع الدولى، والسياسات الأُحاديّة، وأكَّدت ثوابتها الراسخة تجاه رفض التهجير ونهائيّة خيار الدولتين، وتطابقت معها بعض الدول العربية.. تتصلَّب الصهيونية والفصائل، ويزداد ذلك كلَّما تمدّد العدوان؛ والواجب المُلحّ أن نسعى لحصار «كُرة النار»، وليس النفخ فيها بالصمت على سماسرة الدم من الطرفين.
المُفارقة أن الكلمة الأطول جاءت ممّن يقولون إنهم يضعون الفعل فوق الكلام.. الغرائب عديدة؛ ومنها أن محور الميليشيات يُدير المُواجهة من جنوب لبنان؛ ولدى الفلسطينيين تاريخٌ مُؤلم هناك.. «حركة أمل» حليفة حزب الله اصطدمت بالفصائل قبل عقودٍ، وما تزال على عداءٍ عميق معها، و«نصر الله» نفسه حارب «حماس» فى سوريا، قبل أن يتوافق معها ويرعى مُصالحتها مع الأسد. ورغم تسلُّط الضاحية على الدولة؛ فإنها تفتح الجبهة للإخوان والمُقاومة، لإسباغ نكهةٍ سُنّية على التسخين المحسوب. رأس الغول الشيعى يُلفّق تحالفًا لا يُؤمن به أطرافه؛ إنما يُجبَرون عليه، ومن وراء التلفيق يسعون لإقحام المنطقة فى الحرب. وإن كان بعض الغرب قد عدّلوا مواقفهم جزئيًّا، فإن كثيرين من العرب والإسلاميين على حالهم، وربما تقل حماسة فريقٍ منهم عمّا ينتهجه بعض اليسار الإسرائيلى، وهذه أيضًا من المفارقات الساخرة. تردَّدَ أن مُسوّدةَ البيان الختامى تضمَّنت نقاطًا جادة للضغط على أوروبا وواشنطن؛ لكنها رُفِضت من عدّة دول.. تكاد النسخةُ الأخيرة تُطابق كلمة السيسى نصًّا وروحًا، والواقع أنه من دون الموقف الجامع؛ فقد تذوى الأفكار الجادة لتصير جريًا فى المكان. المملكةُ تجتهد من أجل دورٍ فاعلٍ وأمين، ولعلّ هذا قد تحقَّق عندما بدا «مشهد الرياض» استنساخًا للفلسفة المصرية؛ سائرًا خلف عاصمة العرب الأولى، داعمًا لجهودها وثوابتها، ومُخلصًا فى التماس خُطى «قمَّة القاهرة» ومُخرجاتها؛ حتى أنها كانت الحاضر الغائب، والضيف المعنوىّ الأبرز على رأس الطاولة.