أزمات كثيرة تواجه دول القارة الأوروبية العجوز سواء كانت اقتصادية أو سياسية وأمنية أو حتى أزمة أخلاقية، بعد مرور 38 يوما على حرب الإبادة الصهيونية ضد الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة فى ظل الموقف المتشدد والمنحاز من دول أوروبا لصالح الكيان الصهيونى وضد الشعب الفلسطيني، وتبرير ما تقوم به " إسرائيل" من قتل الأبرياء من الأطفال والنساء وتدمير المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس وإجبار سكان القطاع على التهجير القسرى.
38 يوما من الحصار والخناق والتدمير والقتل كانت كافية لوضع أوروبا فى مأزق أخلاقى حقيقى أمام شعوبها وأمام الشعوب الأوروبية، فأوروبا التى تنادى دائما وتتمسك بالقيم الإنسانية والعدالة والديمقراطية وحق الشعوب فى تقرير المصير وتنحاز دائما منذ الثورة الفرنسية فى نهاية القرن الثامن عشر ومع صعود شارل ديجول إلى حكم الجمهورية الفرنسية الخامسة فى نهاية الخمسينات من القرن الماضى، إلى القضايا العربية وخاصة الموقف من القضية الفلسطينية، تفاجئ الشعوب العربية بمواقف متشددة، ويتخذون من تل أبيب مزارا لإبداء التأييد لحكومة اليمين المتطرف برئاسة بنيامين نتنياهو.
قد يرى كثيرون أن الموقف الأوروبى من الحرب على ليس بالموقف المفاجئ فهو استمرار لموقف التبعية للقرار السياسى والعسكرى الأميركى، الذى تجلى فى الموقف من الحرب الروسية الأوكرانية والتى تورطت فيه دول الاتحاد الأوروبى تبعا للقرار الأمريكى والوقوع فى المصيدة الأميركية وتخلت فيه عن مواقفها التى كانت تبدو فى بعض الأحيان والأزمات تتقاطع مع الموقف الأميركى، وبدا ذلك فى الموقف من الحرب على العراق والموقف الفرنسى تحديدا.
فالموقف الأوروبى يعانى – كما يصفه مراقبون- من فقدان التوازن السياسى سواء فى الموقف من الأزمة الروسية الأوكرانية أو من الحرب على غزة وأصبح فى مأزق من أقرب المناطق الجغرافية إليه وما تربطه به من مصالح اقتصادية وتجارية وسياسية وتاريخية وعلاقات ثقافية. فالدول الأوربية انصاعت للموقف الأميركى ضد روسيا رغم أنها أول المتضررين اقتصاديا وتجاريا وسياسيا وخاصة ألمانيا التى تعتمد على الغاز الروسى بنسبة تقترب من الـ50%. وفى الحرب على غزة تفقد أوروبا توازنها الأخلاقى فى جنوبها العربى والأفريقى على سواحل البحر المتوسط والتى كانت تعتبر أوروبا ميزانها القيمى عند المطالبة بالحرية والمساواة وحقوق الإنسان.
الموقف الأوروبى من غزة وقضية الشعب الفلسطينى أحدث شرخا كبيرا فى جسور العلاقات الإنسانية مع الشعب العربية، وهو ما أدركته فرنسا ورئيسها إيمانويل ماكرون وحاولت من خلال تصريحات ماكرون بضرورة وقف الحرب ومد الشعب الفلسطينى بالمساعدات الإنسانية التراجع والابتعاد قليلا عن الموقف الأميركى ومحاولة لإحداث قليل من التوازن فى صورة أوروبا أمام الشعوب الأوروبية وشعوب العالم الثالث، وهو ما يستدعى صورة فرنسا الديجولية إلى الأذهان من جديد. فهل تعكس التصريحات الأخيرة لماكرون تحول أو تصدعا فى الموقف الأوروبى من الحرب على غزة ؟
سبق لماكرون فى مقابلة مع صحيفة" بوليتيكو" الفرنسية أبريل الماضى تأكيده على ضرورة أن تقلل أوروبا من اعتمادها على الولايات المتحدة وأن تتجنب الانجرار إلى مواجهة بين الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان ورأى أن "الخطر الكبير" الذى تواجهه أوروبا هو أنها "عالقة فى أزمات ليست من أزماتها، ما يمنعها من بناء استقلاليتها الاستراتيجية.
الرئيس الفرنسى فى الحوار ذاته أكد على نظريته بشأن "الحكم الذاتى الاستراتيجي" لأوروبا التى من المفترض أن تقودها فرنسا لتصبح "قوة عظمى ثالثة". وطالب بالتركيز على تعزيز الصناعات الدفاعية الأوروبية. حديث ماكرون صداه بدأ يتردد فى عواصم أوروبية أخرى مثل روما وحتى برلين التى يتخذ مستشارها موقفا غاية فى التشدد والانحياز إلى جانب إسرائيل.
فالأحاديث فى أوروبا تدور منذ فترة حول تقليل الاعتماد على واشنطن وبالتالى التحرر والانعتاق من التبعية الأميركية ولو على المنظور البعيد بداية من تأسيس نظام تليح عسكرى مستقل.
فهل تحدث تصريحات ماكرون بوقف الحرب على غزة تصدعا وتراجعا فى الموقف الأوروبى إجمالا...؟ وهل بدأت فرنسا بالفعل تستفيق وتستعيد مواقف ومبادئ الجمهورية الخامسة ويتذكر ماكرون أنه الرئيس التاسع فى هذه الجمهورية التى أسسها ديجول والمحافظة على استقلال القرار الفرنسى دون التصادم مع واشنطن.
أوروبا فى مأزق وفى اختبار حقيقى لمصداقيتها فهناك فشل سياسى وسقوط أخلاقى عبر عنه مؤخرا مسئول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبى جوزيب بوريل الذى قال فى كلمته أمام مؤتمر السفراء الأوروبيين فى بروكسل الاثنين الماضى أن "الاتحاد الأوروبى ملزم أخلاقيا وسياسيا بالمساهمة فى إيجاد حل سياسى للنزاع فى المنطقة، إذا لم ننجح فسنكون فى دوامة من العنف والكراهية المتبادلة لأجيال".
أوروبا أمام تحديات حقيقية مع الجوار الحضارى والتاريخى فى حوض البحر المتوسط فإما أن تحاول استعادة تكريس نموذجها الأخلاقى والسياسى فى التعامل مع قضايا المنطقة وإما أن تكون حرب الإبادة على غزة دليل واضح على الفشل السياسى لأوروبا وسقوطها الأخلاقى