كان الفيلسوف اليوناني الزاهد ديوجين، يسير في عز النهار بمصباح يقربه من وجوه الناس صارخا "أبحث عن إنسان نزيه".
لا يمكن الاعتماد في معرفة الإنسان على ما يعلنه من شعارات وتصريحات، وفي السياسة يزداد الأمر غموضا.
ولم يعان من زيف الشعارات مثلما عانت القضية الفلسطينية، لكن تأتي مذابح غزة لتكشف المستور والمسكوت عنه.
أول ما تكشفه حرب غزة، زيف من صدعونا بالشعارات، فانكشف إتجار البعض بالقضية في كل مناسبة، وافتضح أمر آخرين وأتت النيران التي تحرق أطفال غزة، على كل شعاراتهم، لتكشف كم هي ساذجة تافهة زائفة خائبة، وأنها لعبة سياسة كبيرة، وقودها أطفال ونساء غزة، بل والقضية الفلسطينية برمتها، التي شقيت بالمتاجرين بها.
ثاني ما تكشفه مذابح غزة، هو مستقبل البشر في القرن الـ21، هذا القرن الذي شهد خلال 23 عاما، تسارعا في الأحداث لم يشهده القرن الـ20، وليس الأمر مجرد تسارع في عدد الأحداث ولكن في كيفيتها أيضا، وإن حاولنا إحصاء وفحص هذه الأحداث الخطيرة فسوف نحتاج مجلدات ضخمة، لحصر الانقلابات والحروب والثورات والأوبئة وغيرها، وكفى أن نذكر هنا أن مذابح غزة التي اشتعلت بينما الحرب في أوكرانيا على أشدها، تشير إلى مستوى الوحشية والدموية التي يستقبلنا بها القرن الأمريكي أحادي القطب، مقارنة بالقرن العشرين الذي اتسم بنوع من التوازن بين القوتين العظميين "الحرب الباردة"، ما أتاح في القرن المنصرم للدول الصغيرة والشعوب المقهورة هامشا من المناورة، مستفيدة من هذا التوازن، وهو ما يختلف كثيرا في أيامنا هذه، التي تسيطر فيها أمريكا وحدها على مصير العالم، وما أوروبا إلا تابع، أما بقية الأطراف فهي في هم مقيم، تسعى لمواجهة التغول الأمريكي من ناحية، فيأتيها من ناحية أخرى.
ثالث القضايا التي تكشفها الحرب على غزة، أسطورة تداول المعلومات عبر الإنترنت، الذي صوروه لنا كباب كبير لحرية التعبير والرأي والنشر، فبعد أن قضى الإنترنت على الصحافة الورقية، وأصبح هو الوسيلة الوحيدة المتاحة للشعوب والحكومات لنشر الرأي، بل وشمل كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والتعليم والبنوك وكل كل مناحي الحياة، انكشف فيما لا يدع مجالا للشك، أنه قيود كبيرة بحجم العالم، تلتف حول رقاب وأيدي وأرجل الشعوب والأنظمة على حد سواء. ومفتاح هذه القيود في يد الشركات العالمية الكبرى العابرة للجنسيات، والتي بدورها تتبع السيد الأمريكي وكلب حراسته في المنطقة "إسرائيل".
ورابع دروس حرب غزة التي بدأتها المقاومة يوم 7 أكتوبر، انكشاف هشاشة إسرائيل، فرأى العالم جميع المظاهر التي تنفي ادعاءات الصهيونية بأن إسرائيل شعب، وأخبرنا الإسرائليون الذين ردوا على طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر، بحزم حقائبهم للسفر خارج إسرائيل، أنه لا يوجد ما يسمى الشعب الإسرائيلي أو الشعب اليهودي.. يوجد شعب مصري وآخر يوناني وشعب أمريكي وإنجليزي وفرنسي، وبالطبع يوجد شعب فلسطيني، لكن لا يوجد شعب يهودي أو إسرائيلي، وأن دولة إسرائيل ليس لها أي مقومات سوى الحساب المفتوح لها لدى أمريكا والغرب، لدعمها اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، وأن بقاء إسرائيل مرهون ببقاء القرن الـ21 قرنا أمريكيا وحيد القطب.