الموقف الإقليمي تجاه الأزمة التي يشهدها قطاع غزة، في اللحظة الراهنة، يبدو محوريًا، في ظل العديد من الأبعاد، أبرزها القدرة على التوحد في مواجهة عدوان يبقى الأكثر توحشا، منذ عقود طويلة من الزمن، يزخر بأبشع صور الانتهاكات الإنسانية، والتي تصل في جوهرها إلى حد "الإبادة الجماعية"، في ظل قصف وحشي استهدف المدنيين ومنشآتهم، مما أسفر عن مقتل آلاف البشر، معظمهم من النساء والاطفال.
والحديث عن "الإبادة الجماعية" التي تمارسها القوات تجاه أهل غزة، لا يقتصر على القصف، وإنما يمتد إلى المساعي الحثيثة لتهجيرهم من مناطقهم، بهدف تصفية القضية الفلسطينية وتقويض حل الدولتين، وهو ما يقع تحت بند الجريمة نفسها، طبقا لقواعد القانون الدولي، ناهيك عما يمثله من انتهاك للشرعية الدولية، والتي تقوم في الأساس على تأسيس دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية.
ولعل مسألة التهجير خلقت بعدا آخر، للدور الإقليمي، يضاف إلى دعم القضية، وحق الفلسطينيين في بناء دولتهم، يتجسد في كونه مساسًا مباشرًا بأمن دول المنطقة، وتهديدا صريحا لهم، في ضوء ما قد يترتب عليه من اتساع رقعة الحرب، وبالتالي تقويض عاملي الاستقرار النسبي الذي تحقق في سنوات ما بعد "الربيع العربي"، من جانب، والبعد التنموي، والذي تحقق لجلاء في العديد من الدول خلال السنوات الأخيرة وهو الأمر الذي لا يروق للدولة العبرية، والتي تمكنت من تحقيق قدرا كبيرا من المكاسب إبان مرحلة الفوضى التي شهدها الإقليم خلال العقد الماضي، عبر التوسع في أراضي الدولة الفلسطينية المنشودة، استغلالًا للحظة تراجعت في القضية في الأجندة الإقليمية بسبب المخاوف الأمنية والتهديدات الوجودية التي طالت أمن الداخل لدى كل الدول، جراء الانقسام والارهاب.
وهنا تتجلى أهمية البعد التنموي في دول المنطقة، كأحد أهم الأركان التي باتت تعتمد عليها الدبلوماسية الإقليمية في إدارة أزماتها طويلة الأمد، وهو ما بدا أولًا في العديد من الصراعات البينية، عبر تعزيز التعاون في هذا الإطار بين الخصوم، وهو ما يبدو على سبيل المثال في منتدى غاز شرق المتوسط، والذي تأسس بشراكة "ثلاثية" بين مصر واليونان وقبرص، ليتوسع ويشمل دولا أخرى منها تركيا والدول العربية، وهو ما ساهم في إذابة الجليد المتراكم في العلاقات بين الدول المتصارعة، وساهم في تحويل العلاقة بينهم نحو مزيد من الشراكة، في إطار المشتركات، ناهيك عن وجود إسرائيل والسلطة الفلسطينية، مما قد يساهم في حل مستقبلي للقضية، إذا ما كانت هناك رغبة حقيقية في إنهاء الصراع.
بينما بدت حالة "الصمود" الإقليمي في مواجهة المخططات الإسرائيلية واضحة، جراء التوحد الإقليمي منذ اندلاع القصف في أكتوبر الماضي، لحماية ما تحقق من استقرار، وما تم إنجازه من مشروعات تنموية تهدف إلى الاستدامة، عبر التعاون بين القوى الاقليمية لتحقيق مكاسب مشتركة، خاصة وأن تجربة العقد الماضي كانت كاشفة لحقيقة مفادها أن استمرار الحالة اللانهائية للصراع لن يحقق نفوذا اقوى على حساب الأخرى، وإنما سيؤدي إلى خسائر دائمة سواء على المستوى الفردي فيما يتعلق بالمصالح المباشرة للدول، أو في النطاق الجمعي، في إطار القضايا المشتركة، وفي القلب منها القضية الفلسطينية.
فلو نظرنا إلى النموذج المصري، نجد أن الجانب التنموي كان أحد أهم الأسس التي عززت البعد الدبلوماسي، فالمشروعات العملاقة كانت مصدرا لإلهام العديد من الدول الأخرى، بينما كانت شراكاتها الدولية والإقليمية معضدًا لعلاقاتها التي توسعت جغرافيا بين الشرق والغرب، في حين بدا الالتفاف الإقليمي والدولي وراء الدولة المصرية ومواقفها، سواء فيما يتعلق بالعدوان أو القضية أو التهجير، بمثابة أحدث ثمار النهج القائم على تعزيز الدبلوماسية بالتنمية، في إطار يحمل انسجاما تجاوبت معه كافة القوى الأخرى سواء في الشرق الأوسط أو العالم.
وهنا يمكننا القول بأن البعد التنموي يمثل أحد أهم أعمدة العمل الدبلوماسي المصري، ليتحول إلى أداة مهمة في إدارة الأزمات الكبرى، والتي تتجاوز قضايا التعاون الاقتصادي، وإنما امتد إلى القضايا الدولية الكبرى طويلة الأمد، وفي القلب منها القضية الفلسطينية.