انفتح باب قاعة اجتماعات مجلس الوزراء البريطانى فجأة، وأقبل مارك سايكس، المستشار بوزارة الخارجية، على الزعيم الصهيونى، حاييم وايزمان، مبتسما، وقدم إليه الصيغة النهائية لوعد بلفور «الذى أصدره» أرثر بلفور، وزير الخارجية البريطانية، فى 2 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1917، وأسس لضياع فلسطين.
يذكر الكاتبان، جميل عطية إبراهيم، وصلاح عيسى، فى كتابهما «صك المؤامرة»، أن «سايكس» قال لـ«وايزمان» وهو يقدم إليه «الوعد»: «إن المولود صبى يا دكتور وايزمان»، يعلق وايزمان: «أدركت على الفور أهمية هذه الوثيقة، التى لا يزيد عددها على مائة كلمة وأثرها على الحركة الصهيونية فى العالم».
كان الوعد المشؤوم عبارة عن رد من «بلفور» على طلب للمليونير اليهودى وعضو مجلس العموم البريطانى، ليونيل فالتر روتشيلد، ونص: «عزيزى اللورد روتشيلد.. يسرنى جدا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالى الذى ينطوى على العطف على أمانى اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته، إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومى للشعب اليهودى فى فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جديا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية، التى يتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن فى فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسى الذى يتمتع به اليهود فى البلدان الأخرى، وسأكون شاكرا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيونى علما بهذا التصريح».
«هكذا أعطى من لا يملك إلى من لا يستحق»، حسبما تؤكد أربع شهادات فى كتاب «صك المؤامرة» بينها شهادة «وايزمان» أول رئيس للدولة الصهيونية عام 1949، وتؤكد أيضا أن زرع إسرائيل فى المنطقة العربية صناعة استعمارية مقصودة لعدم وحدة المنطقة، يكشف «وايزمان» فى شهادته أنهم فهموا ذلك، ولعبوا به أمام الأطراف الدولية الاستعمارية، ويذكر أن أعضاء المؤتمر الرابع الصهيونى انقسموا حول اقتراح وزير المستعمرات البريطانية، جوزيف تشمبرلن، عام 1902 باقتطاع جزء من أراضى أوغندا لقيام مقاطعة صهيونية خاضعة للتاج البريطانى، وكانت هضبة وعرة غير صالحة للزراعة، وتجمدت الفكرة.
يؤكد: «لم يكن الأمر فى حاجة إلى ذكاء كبير لندرك، نحن اليهود، أن البريطانيين يشعرون برعب شديد من إنشاء دولة عربية موحدة تضم مصر وفلسطين وبقية أنحاء الشام، فتهدد طرق المواصلات بين بريطانيا ومستعمراتها، وتكرر تجربة محمد على، الذى أنشأ دولة عربية دفع الأوروبيون ثمنا باهظا من دمائهم وأموالهم حتى استطاعوا تحطيمها، وكنت واثقا أن البريطانيين سيقتنعون فى النهاية بألا حل غير إعطائنا فلسطين، لتكون دولتنا على أرضها حائلا بريا يمنع تكرار تجربة محمد على المريرة، فتحفظ لهم مصالحهم فى المنطقة، وتحمى أهم طرق المواصلات وأكثرها حيوية لهم، قناة السويس».
يكشف «وايزمان»: اضطررت فى سبيل الوصول إلى هدفنا القيام بألفى مقابلة سياسية، وكنت فى كل مقابلة استخدم لغة مختلفة، فمع المتدينين كنت أستشهد بآيات من التوراة عن بنى إسرائيل، والوعود التى قطعها إله بنى إسرائيل لهم، ومع الساسة البريطانيين كنت أتحدث عن قيام دولة يهودية صغيرة بجوار قناة السويس ترعى مصالح بريطانيا فى المنطقة، وتقف فى وجه الأطماع الفرنسية التى كشفت عنها الحملة الفرنسية، وكنت أشير إلى أن نفوذنا فى أمريكا قد يساعد على دخولها الحرب، فتنقذ الحلفاء مما هم فيه، وبالطريقة نفسها كان مكتب المنظمة الصهيونية فى برلين يتحدث مع الألمان، ويغريها بأن تكون لهم دولة يهودية صديقة بالقرب من مواصلات عدوتهم التقليدية بريطانيا، ومع المتحررين من المسيحيين كنت أتحدث عن المذابح، التى وقعت على اليهود فى روسيا وفى وسط أوروبا، وأثير فى نفوسهم العطف على الأمانى القومية لليهود فى إنشاء دولة لهم، ومع رجال الفلسفة من أمثال بلفور، كنت أتحدث إليهم فى قضايا فلسفية وتاريخية تتعلق بتاريخ العالم، وبقضايا اليقين والعلم ونهايات العالم وبداياته.
يضيف: كنت أرتدى لكل مقابلة قناعا ولكل مناسبة لباسها، وعندما قابلت الشريف حسين بن على أثناء الحرب فى العقبة، تحدثت إليه عن تعاون اليهود والفلسطينيين فى إرساء الحضارة وتطوير اقتصاد البلاد، الذى سوف يعود بالخير على الجميع، فعلت ذلك كله وفى رأسى صدى ما كان يقوله هرتزل: «لكى نأخذ فلسطين، كان علينا أن نقنع كل الطامعين فيها، وفيما حولها من بلاد العرب أننا سنعمل لحسابهم».
يذكر «وايزمان» أنه زار فلسطين عام 1918 وبعد تجوله فيها مع آحاد هاعام، زعيم الجناح الثقافى فى الحركة الصهيونية، قال له «آحاد»: كان هرتزل يتصور أن فلسطين بلد لا شعب له، هنا شعب وحضارة وأطفال وبرتقال، فإذا أخذناهم وطردناهم منها، فنحن نرتكب ظلما كبيرا، ألا ترى ذلك؟.
يؤكد «وايزمان»: «لم أرد، لكن قلت لنفسى يجب ألا أضعف أبدا، لست المسؤول عن مستقبل هؤلاء الفلسطينيين، فليجدوا مكانا آخر، أو فليعودوا إلى الصحراء التى جاءوا منها».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة