منذ اللحظة الأولى وعقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل عام 79 وكان – وما زال- الرفض الشعبى للتطبيع مع الكيان الصهيونى هو السلاح القوى الذى تمسك به الشعب المصرى فى مواجهه العدو التاريخى لمصر والعرب وعدم التعاون معه ومقاومة أية أشكال للتطبيع وفضحها للرأى العام وإعداد قوائم سوداء "للمطبعين" مع إسرائيل.
الرفض الشعبى للتطبيع فى مصر كان حائط الصد الصلب الذى تهاوت عليه أحلام وأوهام قادة إسرائيل فى ذلك الوقت وسيناريوهات مراكز الدراسات والأبحاث التابعة للموساد الإسرائيلى لاختراق المجتمع المصرى و"التسوق فى سوق خان الخليلى لشراء الموز الإسرائيلي"، كما كانت تحلم جولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية أثناء حرب أكتوبر بعد اتفاقيات كامب ديفيد.
فشلت إسرائيل ما كانت تتمناه وتهدف إليه وتخطط له وهو نزع أفكار وموروثات الحرب والعداء من عقول ووجدان المصريين والنزوع إلى علاقات تطبيع معه لتتدفق أعداد الإسرائيليين إلى الأسواق والشوارع والفنادق والشواطئ المصرية، ويشاركوا فى المعارض والمؤتمرات والندوات الثقافية والسياسية والاقتصادية، ونجح المصريون بكافة شرائهم الاجتماعية فى حصار عملية التطبيع فى أضيق حدودها الرسمية.. وهو ما جعل قادة إسرائيل ومراكز أبحاثها ودراساتها يعبرون عن خيبة أملهم فى "السلام مع مصر".
محاولات خجولة كان يتردد صداها هنا أوهناك من بعض من كانوا ينتمون للنخبة الثقافية فى مصر وكانت تتم دائما بليل وفى الخفاء وبعيدا عن كاميرات التصوير سواء فى منزل السفير الإسرائيلى أو فى المركز الأكاديمى الإسرائيلي. الجهر بخطيئة التطبيع حدثت لمرات قليلة جدا ونال صاحبها من العزلة الاجتماعية الكثير دفعته الى الانزواء مثلما حدث مع الكاتب والمؤلف المسرحى الراحل على سالم مؤلف مسرحية "مدرسة المشاغبين"..!
السواد الأعظم من الكتلة الشعبية حافظ على تماسكه فى رفض كل ما هو صهيونى رغم تعاقب السنوات وابتعادها عن كامب ديفيد حتى بدأ ما تعارف عليه بمحادثات مدريد ثم اتفاقيات أوسلو 1 وأسلو2 بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية الولايات المتحدة الأميركية وشاعت أجواء من التفاؤل والأمل فى سلام قريب وهو ما شجع من قمعوا مواقفهم من الكيان الصهيونى والتطبيع معه الى الجهر بهذه المواقف.
أجواء أوسلو كانت احدى الدوافع القوية الى ظهور أصوات زعمت العقل والواقعية والجنوح الى السلام وانهاء الحروب والتخلى عن "الشعارات القومية"، وضرورة اعلاء صوت السلام والتواصل مع اليسار الإسرائيلى والجلوس مع المثقفين الإسرائيليين و.. و..
ربما كان الدافع الأقوى فى ذلك الوقت هى الفتنة الكبرى الثانية فى التاريخ السياسى العربى التى أحدثت شرخا بل شروخا عميقة فى العقل العربى وانقسامات حادة بين النخب العربية وهى غزو العراق للكويت أو ما يسمى بحرب الخليج الثانية. والاستسلام لمسألة الكفر بشعارات العروبة والقومية العربية وبزوغ أفكار السلام والتسويق السياسى وغيرها.
فى ظل هذه الأجواء المرتبكة كانت الأرضية السياسية مهيأة لاستقبال ما أطلق عليه "إعلان كوبنهاجن" من أجل السلام العربى الإسرائيلى فى بداية عام 97 وتشكلت "جماعة كوبنهاجن المصرية"، الذين تلقوا الدعوة رسميا من سفير الدنمارك بالقاهرة فى نهايات شهر يناير من المفكر اليسارى القديم الراحل لطفى الخولى والمفكر الليبرالى الدكتور عبد المنعم سعيد والمصور السينمائى المعروف رمسيس مرزوق وأستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة الدكتور مراد وهبة وأستاذ الهندسة بجامعة الأزهر الدكتور رضا محرم والسفير صلاح بسيونى وأحمد شوقى وحسن الحيوان وعلى الشلقاني. وكانت هناك مجموعات أخرى من الأردن وفلسطين -ضمت بالمناسبة المناضل المسجون حاليا فى السجون الإسرائيلية- مروان البرغوثى إلى جانب الوفد الإسرائيلي.
وارتفعت الأصوات وظهر المطبعون من كل فج عميق ينادون بـ"عصر السلام" مع "أبناء العم" الصهاينة، واندفع تيار التطبيع الجديد محاولات التأثير فى الرأى العام المصرى وكسر حائط الرفض الشعبى للوجود الصهيونى فى مصر وبدأت الدعايات الوهمية للسلام و"عفا الله عما سلف". وتشكلت ما عرفت بـ"حركة القاهرة للسلام"، وعقدت الندوات هنا وهناك وظن أعضاءها أن قادة الكيان وجيشها أصبحوا بين ليلة وضحاها "حمائم سلام ودعاة صلح أبرياء"، وأن الساحة مهيأة لهم لنشر ثقافة السلام ونبذ أفكار الكراهية إلى آخره.
خاب أمل "الحركة" وتصدى المصريون لدعاة التطبيع الجدد بسبب تعنت العدو الصهيونى وعدوانه المتكرر على الشعب الفلسطينى وعلى جنوب لبنان. ووأدت الحركة ولم يتبقى من أثر "كوبنهاجن وحركة السلام" سوى لعنة شعبية وانتقادات إعلامية.
المفارقة أن حركة القاهرة ضمت أسماء معروفة من السياسيين والكتاب والعسكريين منهم من كان يجاهر بـ"ناصريته" فى ندوات واجتماعات علنية مثل الراحل الدكتور سعد الدين إبراهيم رئيس مركز ابن خلدون إلى جانب الدكتور أسامة الغزالى حرب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية سابقا والدكتورة هالة مصطفى واللواء طه المجدوب، والدكتور محمد شعلان والدكتور عادل صادق والدكتور صلاح العقاد والكاتب على سالم وغيرهم الى جانب المتعاطفين من بعض الإعلاميين البارزين حاليا..!
أمام المواقف الإسرائيلية الكاشفة لحقيقة الكيان الصهيونى العدوانية الرافضة للسلام، انزوت الحركة وأعضاءها وتوارت وصمت الكثير منها وحاول البعض تبرير مواقفه وإظهار "تطهره وبراءته" ونفض يديه من تلك الأوهام، وجاءت بعض الكتابات مثل اعتذارات مستترة عما حدث..!
ومنذ يومين فوجئ الرأى العام بمقال للدكتور أسامة الغزالى حرب -أحد دعاة التطبيع وأنصار السلام الذى زار إسرائيل والعضو البارز فى حركة القاهرة للسلام- يعتذر فيها عن موقفه وأفكاره التى نال بسببها حملة انتقادات واسعة -كما قال- والسبب "ما حدث ولا يزال يحدث من جرائم وفظائع فى غزة يندى لها جبين الإنسانية، نقتل فيها آلاف الأطفال والنساء، وتدمر فيها المنازل والمبانى على رءوس البشر، وتصطف فيها جثث الأبرياء لا تجد من يدفنها".
قدم الدكتور أسامة -وبأثر رجعي- الاعتذار "لشهداء غزة، ولكل طفل وامرأة ورجل فلسطيني"، ويعتذر عن حسن ظنه بالإسرائيليين "الذين كشفوا عن روح عنصرية إجرامية بغيضة".
شجاعة أدبية وبحس وطنى وقومى تحسب للدكتور أسامة على الاعتذار ولا أقول تراجعه انما عودته وهو استاذ السياسة والباحث والمفكر القادر على التقييم وتقدير المواقف وفرزها الى الطريق الصحيح والفهم الحقيقى لطبيعة الكيان الصهيونية العدوانية الكارهة للسلام والمتعطشة لدماء الشعب الفلسطيني.
اعتذار الدكتور أسامة الغزالى أحسبه فى رأيى اعتذارا عاما نيابة عن جماعة كوبنهاجن وأعضاء حركة السلام وأصدقاء إسرائيل فى القاهرة... الا اذا كان لمن بقى منهم حيا يرزق رأيا آخر!
لا أحد ضد السلام التى نادت به الأديان ولكن السلام الذى نؤمن به هو سلام عادل شامل ودائم يمنح الحقوق للشعوب الطامحة للحرية والاستقلال.. سلام مستندا لقوة وليس قائما على ضعف وهوان!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة