لا شىء يُكافئ المُعاناة التى طُرَح فيها الفلسطينيون قهرًا، كلّ عبارات التأسِّى والمُواساة أقل ممّا حاق بغزّة وأهلها طوال أسابيع؛ لكن الصلابة المُصطنعة وسرديَّات الصمود أكبر من المشهد، وقد لا تختلف فى مضارّها عن المقتلة الصهيونية المفتوحة، كأن الذين يلوكون دعايات البأس والشدّة و«شعب الجبارين» على ما كان يُحب عرفات تلقيبهم، يسخرون من محنة المدنيِّين العُزّل، أو يرقصون على جُثثهم الباردة. فى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى كانت المُزايدة أكثر إنتاجات العرب، وظلّ محصولهم عند الحدِّ الأدنى؛ ثم دخل لاعبون جُدد على خطّ القضية، واليوم، يتضخَّم الاستثمار فى البطولات الصوتيّة، وتنتهى جَردة الحسابات إلى خسائر فادحة فى الأرواح.. بقدر النزاع المُحتدم مع الصهيونية الجارحة؛ تتعقَّدُ نزاعاتٌ أشدّ ضراوة بين العقول والحناجر، وبين تُجّار الشعارات ومُنتجى المواقف: طرفٌ يُهلِّل على ناصية الحرب طمعًا فى عوائدها ولو طُبخت بعظام الغزيِّين، وآخرون يجتهدون لإطفاء نارها بحثًا عن مخارج إنسانية آمنة؛ وإن سدَّدوا كُلفتها من كرامتهم وأعراضهم المُستباحَة بالشعبوية والبُهتان.
كانت الحربُ رادعًا معنويًّا من إثارة التشابكات الساخنة، أَمَا وقد هدّأتها الهُدنةُ نسبيًّا؛ فبالإمكان مُقاربة المسألة بعقلٍ بارد ودون شعورٍ بالذنب والمرارة. أوغلَ المُزايدون فى التجارة بدماء غزّة، وتناسوا الضفّة بعشرات الشهداء وآلاف الجرحى والموقوفين، وتجاهلوا الكُلفةَ الاقتصادية والأمنية على دول الطوق، والقصور الحركى والأخلاقى من تُجّار المُمانعة. والمُفارقة أن التهدئة أنجزتها عواصم التعقُّل، وقلبها القاهرة، ولم يُنجزها العقائديون والمذهبيون؛ بل إن «الإخوان» الذين عاشوا عقودًا يُموّلون نزواتهم تحت لافتة فلسطين، ويتبضَّعون الموارد والشعبية بحملات التبرُّع والمساندة، ما قدّموا دولارًا ولا أطلقوا حملةً لصالح غزّة وأهلها، ولا قسموا معها ما يتلقّونه من تمويلاتٍ مشبوهةٍ ليكونوا خنجرًا فى خاصرة الإقليم، ومن فَرط ما أدمنوا الرقص على الجُثث صارت القضية حرفةً فى أبواب كَسْبهم الحرام، وروتينًا باهتًا فى أدبيّاتهم البذيئة.
أخطرُ ما يتهدَّد فلسطين؛ أن تُزَاح إلى رُكن الاعتياد المُظلم. تبدأ الأحزانُ جليلةً وساخنة؛ ثم تُغلِّفها الأيام بطبقةٍ من غُبار البلاغة الساذجة، فتنقطعُ اللغةُ عن مدلولاتها إلى أن يصير الموتُ المجانى بطولةً، والموتى المغدورون أرقامًا صمَّاء.. الذين يتحدَّثون عن الصمود بأكثر ممّا يبكون فى الجنازات؛ إنما يُحقِّقون مُراد الاحتلال فى خلع الضحايا من سياقهم الإنسانى، وتحويل المواجع النازفةِ إلى خُطبٍ زاعقة أو لافتاتٍ سياسية مُلوَّنة. الثباتُ اختيارٌ حُرٌّ فى ظروفٍ موضوعية؛ أمَّا ما جرى على امتداد «غزّة» فإنه حرب إبادة، والواقعون فى جحيمها لم تكُن لهم الخيرة من أمرهم. العاملون بتواضعٍ فى تلك اللحظة أخلصُ ممَّن يدّعون القوَّةَ الغائبة، والصامتون أصدقُ من الذين حوَّلوها سوقًا يُنادون فيها على مزاد الأشلاء والدم. بل ربما يكون التاجرُ أشدَّ خسَّةً من القاتل؛ لأنّه عمليًّا يُمثّل بالقتلى بعد نحرهم، ويبيع فيهم ويشترى لمنفعةٍ شخصية، بينما يدَّعى أنه يحمل النعش ويُغلق القبر بالدمع والفاتحة.
اختبرت مصرُ شيئًا من ذلك لعقودٍ مضت. بادئُ الأمر أنها تصدَّت لابتلاع فلسطين ضمن جمعٍ من العرب؛ وعندما وقعت الهزيمة مضى الباقون عُراةً من كلِّ شىء، وأُلقِيت عباءةُ اللوم على أكتاف المصريين. وبعدها تكبَّدنا فواتير باهظة فى غزّة، ثم فى سيناء، وارتحلنا فى هموم القضية من بيروت إلى أيلول الأسود، وبقيَّة محطَّات السلم والحرب حتى اليوم. وبعد أكتوبر 1973 كان الشاغل الوطنى الأكبر أن نستعيد الأرض، فسار «السادات» إلى التفاوض، ونصب مقعدًا للفلسطينيِّين فى «مينا هاوس»؛ لكنهم غابوا، ومضوا فى قافلة المُزايدة ثم وقَّعوا مع المُقاطعين. ولاحقًا ارتضوا بأقلّ ممَّا بشَّرتهم به القاهرة، وتوزَّعت جبهة الرفض بين خسارة الأرض أو السيادة أو التطبيع دون موقفٍ ولا غاية. والمُؤسف أنّ المشهد يُعاد إنتاجه: الفلسطينيون تحت الانقسام تذروهم الرياح ويتخطَّفهم الطامعون، ومُناضلو الحناجر لا يربحون حربًا ولا يُنقذون قتيلاً، أمَّا المُتعقّلون فإنهم يتلقّون الضربات بكفٍّ فلسطينية ظاهرة، ونوايا أُصوليّة وميليشياتية مُضمَرة.
الناظرُ فى أحوال الغزِّيين لن يجد حديثًا عن البسالة والصمود؛ بل بشرًا ضُعفاء ومظلومين يُفتِّشون عن العدالة الغائبة، وشرطُها أن يتوقَّف عبور الآلات الثقيلة على بيوتهم وأبدانهم. لا معنى إطلاقًا لأن يتحدَّث المُنكشفون على الحرب من وراء شاشاتٍ مُحايدة، أو الذين تبرأ ضمائرهم بصورةٍ وبضع كلماتٍ على السوشيال ميديا، عن النضال حتى آخر قطرةِ دمٍ فى شرايين النازفين، ما لم تكن شريكًا فى المُعاناة؛ لا يحقُّ أن تُلوِّثها بالفخر المُطمئن، يُشبه ذلك رغبةَ الرافضين لمداولات «كامب ديفيد» واتفاقية السلام تمسُّكًا بالنضال على جثَّة الجندى المصرى الأخير. ومُنتهى الوقاحة أن ينتفخ المُناضلون الافتراضيون ثم يتقيَّأوا كلامًا وضيعًا عن الفداء والتضحية، وفواتير التحرُّر الواجبة على الشعوب؛ كأنّ الغزِّيين منذورون للموت فقط، أو لا يحقُّ لهم أن يتجنَّبوه ويهربوا منه، ولا أن يُؤجِّلوه مللاً أو خوفًا أو للتجهُّز بعدَّة الحرب. صحيحٌ أن بعضًا من المُتزيِّدين تسرقهم العاطفة، وتخلو قلوبهم من النوازع المشبوهة؛ إنّما الأغلبيةُ تسوقهم أغراضٌ دنيئة، وينزلقون فى تشيىء فلسطين ونزع إنسانيتها، كحال الصهاينة أو يزيد.
نُزِعت القضية على مدى عقود من مدارها الإنسانى، وحُبِست وراء ستارٍ عقائدى سميك. كان تأسيس «حماس» انطلاقًا من انتفاضة الحجارة بدايةَ تغليب المُكوِّن الدينى على بقيَّة الصفات، الأخلاقية والتاريخية والعروبية والديموغرافية، ثمّ كان انخراطُها العميق فى قلب المشروع الإخوانى، ومنه إلى الأجندة الشيعية، مدخلاً لتصفية تركة النضال الطويل والبدء من الصفر، فضلاً على امتشاق الخريطة السليبة لتكون مُسدَّسًا فى وجوه الأنظمة العربية، قبل أن تختصم إسرائيل نفسها. ليس خارج السياق أن نتذكَّر اقتحامَ الحدود المصرية فى 2008، ولا الأنفاق التى أعانت المُقاومة ثمّ انقلبت لتعُاضد الإرهاب لاحقًا. ومن قبلها انقلاب الحركة على السلطة، واستباحة دماء الفتحاويين وعناصر قوى الأمن التابعين لحكومة رام الله. السلاح المحمول على العقيدة طالَ صدورَ الأشقاء بقدر ما هدَّد الأعداء، ذلك أنه يُخلِص لفكرته الضيّقة أكثر ممّا يعتنق القضية الجامعة؛ لذا يتساوى لديه الآخر، يهوديًّا كان أو مُسلمًا من مُنطلقٍ مُغاير. هنا لا تكون المُزايدةُ خطابًا تعبويًّا صافيًا؛ إنما ترقى لمرتبة العداوة وشقِّ الصف، وتتوخّى ترجيحَ أجندةٍ بعينها على غيرها من البدائل والخيارات.
إن كُنّا لا نختلف على حقِّ المُقاومة فى تحصيل برنامجها التحرُّرى بكلِّ السُّبل المُمكنة؛ فبالدرجة نفسها لا يُمكن إجبار الآخرين على مسالك بعينها من باقة الدعم المُتاحة، ثمّة دُولٌ تستثمر فى الفوضى والأنشطة المُسلَّحة، وغيرها تُدير مواقفها بالدبلوماسية والسياسة. المُفترَض أن تتكامل الجهودُ، لو كانت النوايا خالصةً؛ لكنّ التفرُّغ لطعن الحُلفاء الافتراضيين، أو إهدار بعض الطاقة فى تلك المهمَّة، ربما يخدم العدو المشترك، أو يطعن على الأقل فى صدقيَّة الأهداف المُعلنة.. تفكيكُ المشهد يضعنا أمام ثلاثة تفسيرات: الفريق الذى يتسمَّى «محور الممانعة» ولديه تطلُّعاتٌ إقليمية لا تُفرِّق بين العرب وإسرائيل، والأُصوليّة الإسلامية التى تآكلت حواضنها وتسعى لاختراق المجال العام تحت لافتاتٍ تعبويّة جذّابة، وأخيرًا العوام الذين تتأخَّر عُقولهم وتتقدَّم عواطفهم، ولا يرون الأُمور إلّا من مناظير ضيِّقة. إن افترضنا حُسْنَ النيَّة فى الفئة الأخيرة، فإن الفئتين السابقتين إنما تُحرِّكهما غاياتٌ مقصودة، ويستهدفون توظيف الطاقة الشعورية للقضية وقُدرتها على الحشد، فى بناء جبهاتٍ شعبويّة عريضة، تكون بمثابة «مسمار جحا» فى بيئاتها، ورصيدًا مُؤجّلاً يصلُح للصرف، عندما يكون المطلوب تسخين المجتمعات وضربها من داخلها.
إن كان الذين بشَّروا بالقوَّة عاجزين عن إنفاذها، ولم يُقدِّموا لغزّة ما يحميها أو يُوقف نافورةَ الدم؛ فإن المُزايدة على المُنحازين للسياسة لا تتجاوز الابتزاز والتوظيف غير الأخلاقى. سبق أن شنَّت إسرائيل حربًا على حركة الجهاد، فى أغسطس 2022 ثم مايو 2023، ولم تتدخّل «القسّام» أو تنقض تفاهماتها مع العدوّ. هكذا كان من الوقاحة مثلاً أن يُتاجِر الإخوان بمسألة المعبر، ويمضى خلفهم وُجهاء «حماس» من فنادقهم الفاخرة، ثم «حزب الله» المُنضبط بإيقاع إسرائيل فى الاشتباك، وبعض وجوه محور الميليشيات الشيعية، بينما يعرفون جميعًا أن مصر لم تُغلِق أبواب رفح لحظةً واحدة، وأن المسألة تخصُّ نزاعات السلاح التى رسموا معالمها مع الاحتلال، بإغفالٍ كامل للخارج وتوازناته السياسية والقانونية.. والمُؤكَّد أنهم يعون تمامًا أن الدول غير العصابات، وأن الاستقامة القيمية كانت تقتضى اعتذارًا أدبيًّا للمدنيِّين فى القطاع، بدلاً من استهداف الباحثين عن مخرجٍ من الأزمة، ولم يكونوا سببًا فيها ولا شريكًا فى ترتيباتها، مُعضلةُ «خطاب الصمود» المُتعالى على محنة الضحايا، أنه يُمكِّن السرديَّة الاستغلالية للقضية، من ناحية أنه يجعل الأولويّة لإبقاء الصامدين على المذبح عِوَضًا عن فَكّ قيودهم، أى أنّه يتجاوز القاتل إلى إدانة الذين يضعون حياة القتلى فوق مصالح الطائفة.
يُريدُ الاحتلال أن تستمر الحرب، ويمضى فى إبادة الغزِّيين بينما يقول إنه يستهدف «حماس»، وفى المُقابل يُشاركه المحور الشيعى والإخوانى فى إرادته؛ كأنهم يستحلبون المخزون العاطفى للصراع؛ من أجل أن يخبزوا فطيرتهم الدعائية، على هذا المعنى فإن المُزايدة تُحقِّق غرضًا عظيمًا فى نفس إسرائيل، لأنها تُزيح السياسة وراء «الدوجما» والمُعادلات الصفريّة، وتُسفر عن انقسامٍ داخل الجبهة التى يتعيَّن أن تكون مُوحَّدة، كما تُنصِّب النساء والأطفال ندًّا للآلة المُتوحِّشة؛ لناحية أن الاختزال فى عنوان الصمود يدَّعى المُواجهة المُتكافئة، ويُبرِّر للصهيونية، ولو ضمنيًّا وعن غير قصدٍ، بنكَ أهدافها بصبغته النازيّة الحارقة. إنّ أقذرَ ما تُطعَنُ به قضيّة فلسطين أن تُصار إلى التأطير العاطفى، أو تكون رافعةً للحشد العقائدى على قاعدةٍ نفعيَّةٍ رخيصة، وأن تُستثمَر المآسى لإنجاز تفاهماتٍ تخصُّ حركةً هنا، أو حزبًا هناك، أو عاصمةً طامعةً تُقامر بالاثنين معًا.
تاجرَ المُتأسلمون كثيرًا بمسألة «صفقة القرن»، وكشف أبو مازن أن الإخوان ومرسى تبنَّوها وسعوا فى إنفاذها، وعندما وُضِعت على الطاولة بعد «طوفان الأقصى» نسَفتها مصر من جذورها بموقفٍ مبدئىٍّ لا يقبل المُساومة، وما زال الأُصوليّون يُتاجرون بها رغم فضيحتهم الفاقعة. أمَّا المُزايدة فقد جرَّبناها كثيرًا، من البوسنة إلى الصومال والشيشان وأفغانستان وغيرها، واكتشفنا فى كلِّ مرَّةٍ أنها كانت وسيلةً للتعبئة والتجنيد، ولجَمْع التبرُّعات وزيادة ثروات التنظيم، ثمّ يعود الإرهابيّون إلى بيئاتهم الأصليّة الآمنة مُدجَّجين بالعداء والموت. لم يُحرِّر المُتطرِّفون أرضًا، ولا أنقذوا شعبًا، ولا صنعوا واقعًا أجمل أو تركوه على رداءته القائمة؛ إنّما إذا دخلوا قريةً أفسدوها وتاجروا فى القُبح والقهر. كانت فلسطين مُحتلَّةً قبل الإخوان، ثمّ صارت معهم مُحتلّةً ومُنقسمة، وكذلك أمر لبنان الذى لا أنتج رئيسًا ولا اكتفت الطائفية من شَفْط دمائه، واليمن الذى يُناضل «حُوثيّوه» بجانب غزّة بعدما انتهوا من التنكيل باليمنيِّين. مُفارقاتٌ على سخافتها تكشف عُمقَ الانتهازية والبذاءة، وضيقَ الآفاق والأرواح لدى باعة العقائد ومُحترفى الشعارات، إنّهم كلَّما تحدَّثوا عن الصمود مُجرَّدًا من صفة الاضطرار والجبريّة، والمُقامرات غير المحسوبة، ومن أطماعهم الدفينة السوداء؛ كأنَّهم يتحدَّثون عن صُمودهم هم ولو على جُثث أهل القطاع، وما تبقَّى من حلم فلسطين المُبتلاة بالأفَّاقين، من الدراويش والمُعمَّمين وحَمَلة المباخر، ونخّاسى السياسة المُحلّاة بلحيةٍ خفيفة، خفّة اللون والعِلم والاستقامة الخُلقيّة، ومن ببّغاوات الآيات والأحاديث، دون وعىٍ أو بصيرةٍ أو ضمير.